Thursday, 6 September 2018

قراءة في رواية (لعبة الملاك) – كارلوس زافون


قراءة في رواية (لعبة الملاك) – كارلوس زافون



الرواية من منشورات دار الجمل – ترجمة معاوية عبد المجيد – 680 صفحة (3 أجزاء وخاتمة)






-(لعبة الملاك أم لعبة الشيطان؟؟؟) سؤال لا ينفك يتردد صداه في ذهنك على طول الرواية



كل كتاب تعيش فيه روحٌ ما, روح من ألّفه, وأرواح من قرؤوه وعاشوا وحلموا بفضله (هذه هي الثيمة التي يعتمد عليها كارلوس زافون في رباعيته المدهشة "مقبرة الكتب المنسية"

رواية (لعبة الملاك) هي الجزء الثاني من هذه السلسلة الرائعة, حيث كان الجزء الأول منها بعنوان (ظل الريح), ورغم أن الجزئين لا يرتبطان ببعضهما من حيث الأحداث, إلا أن زافون أبى إلا أن يضيف لمسته المميزة فأنهى الجزء الثاني حيث يبدأ الجزء الأول. فينتهي الجزء الثاني (لعبة الملاك) بولادة دانييل سيمبيري الذي سيقوم في الجزء الأول من الرباعية المعنون (ظل الريح) بفتح البوابة الخشبية العملاقة لمقبرة الكتب المنسية لتبدأ المغامرات السحرية.

في الحقيقة, لا شيء في (لعبة الملاك) يشبه (ظل الريح) إلا الأسلوب المبهر للكاتب العبقري كارلوس زافون في تجميع خيوط الحكايات المختلفة للشخصيات وتعقيدها لتتداخل فيما بينها قبل أن يبدأ في فك ألغازها الواحد تلو الآخر بطريقة تحبس الأنفاس.

تدور أحداث الرواية في مدينة برشلونة قبل عقدين من الحرب الأهلية وقد قام زافون بتضمينها بعض الإشارات ووصف للظروف التي أدت إلى هذه الحرب. حيث تمجد هذه الرواية, كسابقتها, مدينة برشلونة رغم سوداوية الأحداث.

وصف زافون المتقن والشاعري للأماكن والطقس يجعلك تنغمس في الرواية بشكلٍ مذهل, فتجد نفسك تسير في الشوارع التي يصفها وتدخل الأبنية مع أبطاله وتراها بوضوح في خيالك. تشعر بثقل رطوبة الجو تارةً و تتجمد أوصالك من البرد تارةً أخرى.

(لعبة الملاك) من الروايات القلائل التي تسكنك وتتغلغل في خلايا عقلك وتفرض نفسها على روحك وتؤرق منامك, فلا تستطيع التملص منها حتى في أحلامك حيث ترافقك شخوصها وتحيط بك من كل جانب لتجد نفسك متورطاً معها في ما تمر به من أحداث غريبة ومشاعر متضاربة. فتبكي تارةً من القهر, وتشعر بسعادةٍ تارةً أخرى, بل وقد تتفاجأ من نفسك وأنت تصرخ بملء صوتك منبهاً أحد الشخصيات للخطر المحدق به.

مردّ هذا إلى براعة الكاتب على الحبكة المشوقة قوطية الطراز التي تنسجم تماماً مع زمان ومكان الأحداث.

ما يميز (لعبة الملاك) عن سابقتها (ظل الريح) هو الكم الهائل من الأحداث المأساوية والرعب والجرائم الفظيعة والظلم الشديد, سيما في أول 200 صفحة والتي كان ضحيتها بطل الرواية "دافيد مارتين" لدرجةٍ تشعرك بالقهر وتبكيك بشدة وتتساءل مع توالي المصائب التي يُمنى بها هذا الطفل, كيف أمكنه أن ينجو ويتابع حياته؟؟, لتكتشف مع استمرار الأحداث, أن ما عانه في طفولته لا يعتبر شيئاً مقارنةً بما سيعانيه على امتداد باقي الرواية.

حيث يتلقى دافيد, في فترةٍ اعتقدها أحلك فترات حياته التعيسة أصلاً, عرضاً مغرياً على الطريقة الفاوستية من ناشرٍ غامض, حيث يجد نفسه عاجزاً عن رفض عرضٍ كهذا, ليكتشف ونكتشف معه أنه قد ورّط نفسه ومن حوله في متاهةٍ من الرعب لا فكاك منها.

في (لعبة الملاك) لا يكتفي زافون بإمتاعنا برواية بوليسية غامضة مثيرة, بل يمرر بذكاءٍ وحنكة وإبداع لا مثيل له الكثير من الأفكار المثيرة للاهتمام ويهدم الكثير من التابوهات من خلال الحوارات الفلسفية الوجودية العميقة بين دافيد وناشره المزعوم أندرياس كوريللي من جهة, وبين دافيد وايزابيلا الجميلة من جهة ثانية, وبين دافيد وأمينة المكتبة ايلاليا من جهة ثالثة.

حيث تناقش هذه الشخصيات في حواراتها العميقة العديد من المسائل التي تمس وضع المرأة في ذلك الزمن, وكذلك مسائل الإيمان والعقائد وبذلك تثير في ذهن القرائ الكثير من التساؤلات العميقة.

كما أن في الرواية إشارة واضحة إلى طبيعة الإنسان الشيطانية التي تسببت فيما بعد بالحرب الأهلية في اسبانيا. ويظهر هذا جلياً في قول مارتين في خاتمة الرواية: (خلال أعوام طوافي, رأيت بأم العين ذلك الجحيم الموعود الذي صورته في الصفحات المكتوبة لرب العمل, ينفث نيرانه على دربي. هربت من ظلي نفسه ألف مرة. كنت أتمشى على الشاطئ أو أجلس قبالة الكوخ على الرصيف الخشبي لأقرأ كومة من الجرائد القديمة التي وجدتها في إحدى الخزانات التي تفيض صفحاتها بأخبار الحرب التي تحرق العالم مثلما حلمت من أجل ذلك الناشر)

كذلك تتركك الرواية مع سؤالٍ محيّر (هل كوريللي هو الشيطان نفسه؟ وهو يقوم بالانتقام لنفسه من عدوه الأزلي, الإنسان؟)

إذ يختتم زافون الرواية بمشهد سريالي نشاهد فيه لقاء كوريللي الأخير مع دافيد, حيث يأتيه مصطحباً كريستينا الصغيرة كما وجدت في تلك الصورة الغامضة داخل ألبوم الصور الخاص بها والتي لم تجد لها تفسيراً منطقياً حينها

ويقول كوريللي لدافيد في هذا المشهد: (قررت أن أردّ إليك ما سلبته منك, أعزّ ما أحبه قلبك- قررت أن أضعك مكاني لمرةٍ واحدة, لتشعر بما أشعر به. لن تشيخ أبداً وسترى كيف تكبر "كريستينا" بجانبك, وستراها يوماً ما تموت بين ذراعيك. هذه نعمتي وانتقامي), فهل يشير هذا المقطع إلى اللعنة الإلهية التي مُني بها الشيطان عند تمرده على الله, والعذاب الأبدي الذي عاناه بعد خسارته للفردوس وطرده من الجنة؟ أم أن زافون يقصد أمراً آخر؟ ربما يجيب الجزء الثالث من هذه الرباعية البديعة على هذا التساؤل وربما يطرح تساؤلات أكثر إثارةً للحيرة.....

الرواية متخمة بالاقتباسات الرائعة, والتي اخترت منها على سبيل المثال, ما يلي:  

·        الحياة ترزق الناس العاديين أولاداً, فيما ننجب نحن الأدباء كتباً

·        الكائن البشري يؤمن كي يتنفس, يؤمن كي يبقى على قيد الحياة

·        دخلت إلى المكتبة واستنشقت عبير الكتب المكون من السحر والأوراق, واستغربت كيف لم يخطر على بال أحدٍ حتى الآن أن يعبئه في زجاجة عطر

·        أعتقد أنك قاضٍ جائر بحق نفسك،  وهذه خصوصية تميّز النوابغ

·        لا أثق بمن يدّعي كثرة الأصدقاء،  إنها دلالة على الجهل بالآخرين

·        ان اي عمل فني عدائي بطبيعته،  يا ايزابيلا.  وما حياة الفنان سوى حرب،  سواء أكانت صغيرة أم كبيرة،  بدءاً من تلك التي يخوضها مع نفسه ومحدودياته.  إذا أردنا بلوغ أي هدف،  علينا أن نتسلح بالطموح،  ثم الموهبة،  فالمعرفة،  والفرصة السانحة أخيراً.

·        ودعتني باحترام واختفت في الممر.  سمعت خطواتها تبتعد،  ثم صرير الباب يغلق.  في غيابها،  لاحظت للمرة الأولى حجم الصمت الهائل الذي كان يخنق ذلك البيت.

·        الإيمان إجابتنا الوحيدة على مسائل وجودية يصعب تفسيرها؛  الفراغ الأخلاقي الذي نلمسه في الكون،  حتمية الموت،  ألغاز أصل الأشياء أو مغزى وجودنا وغيابنا.  إنها مسائل بدائية وبسيطة للغاية،  لكن حدودنا نفسها تمنعنا من الإجابة عنها بوضوح،  ولهذا السبب نسعى إلى الإنجاب والتكاثر،  كردّة فعل دفاعية،  كإجابة عاطفية.  إنها محض بيولوجيا.

أي تأويل وتفسير للواقع هو مجرد تخييل.  المشكلة،  والحال هذه،  تكمن في أن الإنسان حيوان أخلاقي،  منفي في إحدى زوايا كونٍ لا يعترف بالأخلاق،  ومحكوم بحياةٍ فانية ولا معنى لها سوى في تخليد الدورة الطبيعية للحفاظ على النوع،  لذا من المستحيل البقاء في حالةٍ مستديمة من الواقع،  بالنسبة إلى الكائن البشري على الأقل.  نحن نقضي جزءاً كبيراً من حياتنا في الحلم،  لا سيما حين نكون مستيقظين. محض بيولوجيا،  كما أسلفت. 

·        نحن ندّعي بأننا نفهم الأغاني،  لكن الموسيقى وحدها ما يجعل من كلماتها مفهومة.

·        لا يعي المرء حجم الجشع في قلبه حتى يسمع  رنين الدنانير في جيب

·        الاتفاق القائم على كلمة الشرف غير قابل للفسخ،  لأنه يفسخ من أبرمه

·        نحن،  قبل أن ندخل درب الحياة،  نعلم مسبقاً ما الذي سنصافه خلالها.  نحن لا نتعلم شيئاً مهماً في هذه الحياة،  إنما نتذكر ليس إلا.

·        قد قالها والدي،  قبل أن يتوفاه الله: إذا سُمح للنساء بتعلم القراءة والكتابة،  فإن هذا العالم سيخرج عن السيطرة.

·        هل تعلم أجمل مافي القلوب المحطمة؟  أنها تتحطم بالفعل مرة واحدة فقط،  وكل ما يحل بها،  بعدئذ،  مجرد خدوش

·        الإيمان أو عدم الإيمان هو صنيعة الجبناء.  نحن نعرف أو لا نعرف.  نقطة، انتهى

·        تعلمنا الأقصوصة الخرافية أن الكائنات البشرية تتعلم وتتشرب الأفكار والمفاهيم بواسطة السرد والحكاية،  وليس بالدروس التربوية والخطب النظرية.

·        لا شيء عادل.  قد نأمل أن يكون منطقياً،  كحدٍ أقصى.  اما العدل،  مرض نادر في عالم سليم كسمكة،  بالمحصلة

·        المهم انك تعمل.  لطالما قلت إن الخمول يضعف الإلهام.  ينبغي بالمرء أن يظل مشغول العقل.  وإن كان بلا عقل فعليه أن يشغل يديه بشيء ما،  على الأقل

·        انا اتكلم عن امرأة حقيقية،  واحدة من اللواتي يجعلنك تصبح ما ينبغي عليك أن تكون حقاً

·        تركتها تغمرني بذراعيها،  وأسندت رأي على شعرها.  كان عناقها بنكهة السلام ورحابة الصدر،  يطفح نوراً

·        اذا أردت إيهام أحدٍ ما،  فما عليك سوى المناورة في إثارة فضوله أولاً، وإشعال غروره ثانياً، واستنهاض شهامته أو إيقاظ ضميره أخيراً

رواية (لعبة الملاك) هي مزيج سحري من الرعب والتشويق والألم والأمل والحب والفقد. أنصح بها وبشدة



دمتم قارئين

شيرين الخس




Monday, 13 August 2018

قراءة في رواية (وليمة لأعشاب البحر) - الكاتب السوري حيدر حيدر



قراءة في رواية (وليمة لأعشاب البحر)- للكاتب حيدر حيدر





الاستلاب والغبن التاريخي المزمن الذي صار دمغة خاصة بالشعوب العربية المهزومة من الخارج والداخل

لعنة الأزل اللا منطقية القاهرة



روايةٌ أقلّ ما يقال عنها أنها ملحمة ساحرة قلّ مثيلها في أيام الأدب الرخيص الاستهلاكي الذي كاد ينسينا كيف يكون الأدب رسالة تعكس آلام الشعوب ورغباتها.

ربما لن يكون هذا مستغرباً إن عرفنا أن الكاتب استغرق 9 سنوات في كتابة روايته التي سببت عاصفة من الامتعاض والرفض في صفوف الكثيرين. لكن هذا الرفض والاستنكار لم يأتَ عند اصدار الرواية ونزولها إلى الأسواق بل كان بعد 17 عاماً من صدورها, وتحديداً عام 2000 حين قررت الهيئة العامة لقصور الثقافة إعادة طباعتها, لتثير عاصفة من الاستنكار والهجوم إلى حد طلب محاكمة كاتبها أمام القضاء المصري بتهمة التطاول على الذات الإلهية وازدراء الأديان.

في الحقيقة أنا ممتنة لكل من هاجم الرواية, إذ أن هذا كان السبب في قراءتي لها في المقام الأول, رغم تأجيل القراءة لعدة أعوام بسبب العنوان الذي لم يشدني للقراءة, والذي صار في نظري, بعد قراءتي لها, عنواناً عبقرياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

بعد قراءتي للرواية لم أفهم سبب محاربتها سوى أن من حاربها كان هدفه أن لا يصل محتواها العبثي الصادم الموجع للقارئ العربي, خوفاً من أن يفيق من غيبوبته. بينما كانت الحجة المقنعة التي لا يمكن مناقشتها هي تعديها على الأديان والذات الإلهية, وربما كان هذا رأي من قد يقرأ الرواية بسطحية دون الغوص والابحار فيها.

طبعاً لا يمكن أن ننكر أن الرواية تحوي الكثير من الشتائم الدينية والكلام البذيء, لكن زيارة صغيرة إلى شوارع سوق من أسواق أي بلد عربي ستكون كفيلة بإدراكنا أن هذه الشتائم وحتى الأفكار منتشرة للغاية في مجتمعاتنا مع الأسف الشديد.

بالتأكيد لا دينية الكاتب ظاهرة جلية, لكن شتائمه والمفردات البذيئة التي اختارها جاءت ملائمة لشخصية قائليها ,وكذلك انتقاداته التي قد يراها البعض ساخرةً من الدين هي في الحقيقة انتقادات لشوزفرينية المجتمعات العربية التي تتكلم عن الفضائل ولا تمارسها, والتي تتكلم عن حرية المعتقدات بينما تصادر الرأي الآخر. (رغم أن كل هذا كان في نظري مبرراً إلا أنني لا أخفي امتعاضي من هذا وانزعاجي الشديد عند المرور عليه أثناء القراءة)     

العبثية هي الفكرة الطاغية على أحداث الرواية, حيث نرى كيف أن الخاسر في الثورة هو الشعب الذي يضحي بكل ما لديه بكل عنفوانً وشموخ لدرجة يسيل معها دمه وهو يقاوم رافضاً الاستسلام, ليتحول بعدها هذا الوطن إلى لعبة بيد السياسيين يتقاسموه حسب قوانين اللعبة السياسية, كما نرى كيف يتوحد الشعب ضد المحتل الأجنبي ثم يعود لانقساماته بعد جلاء المحتل.

اللافت للنظر هو كون الكاتب سوري بينما اختار خلفيةً لروايته ثقافتين بعيدتين عن بعضهما جغرافياً إحداهما شرقية والأخرى مغاربية. لكن لن يبدو هذا غريباً حين نعرف أن الكاتب كان مُنتدباً إلى الجزائر عقب جلاء المستعمر الفرنسي ليساهم في ثورة التعريب التي أعقبت الاستقلال. حيث سمع الكثير من القصص التي ساهمت في خلق هذا العمل الأدبي الذي لم أجده روايةً بقدر ما وجدته مجموعة من القصص ذات الحبكة الجميلة التي يربط بينها خيط عريض محكم برشاقة.

رواية مرهقة منهكة ممتلئة بالوجع العربي العبثي والعود الأبدي للقمع والتعذيب والنفي الذي تتناقله الأيدي, فتارةً يكون ممارسه هو المستعمر ليصبح بعد رحيل هذا المستعمر بيد أبناء الشعب الذين يمارسونه ضد بعضهم بطريقةٍ أكثر وجعاً وإيلاماً.

تناقش الرواية الواقع السياسي والاجتماعي في العراق والجزائر في النصف الثاني من القرن العشرين, هذان البلدان يتطابقان, رغم البعد الجغرافي والاختلاف التاريخي, في العصبية والثورة والايديولوجيات, فالقالب نفسه حتى وإن اختلفت القشرة الخارجية. العنصر المشترك بينهما هو الثورة والضياع والاخفاقات والأوجاع واللامنطقية.

أهم أفكار الرواية هو المقاربة بين الحركة الثورية العراقية للحزب الشيوعي وما آل إليه العراق بعد انتفاضة الأهوار وتغلّب القوميين وذلك بعد عام 1963 وكارثة الأهوار عام 1968,من خلال شخصيتين رئيستين هما مهدي جواد ومهيار الباهلي, وبين ما آلت إليه الجزائر بعد نهاية حرب الاستقلال الجزائرية (ثورة المليون شهيد) وانقلاب بومدين على بن بللا وما حدث من شتات لروح الكفاح الوطني الجزائري من خلال شخصيتين رئيستين هما آسيا الأخضر وفلة العنابية. كما تطرح العديد من القضايا الفرعية كحرية المرأة والتدين الظاهري والتعصب والعلاقة بين العرب والغرب ونظرة كل منهما للآخر.

مهدي جواد معلم اللغة العربية الذي أتى من العراق إلى الجزائر للمساهمة في ثورة التعريب بعد انتهاء الاستعمار الفرنسي, والذي كما أرجح هو انعكاس لشخصية الكاتب نفسه, والذي رغم ما يوحيه اسمه من انتمائه إلى خلفية دينية إلا أنه وكما يبدو جلياً هو رجل لا ديني شيوعي ترك العراق هرباً من فشل الثورة الشيوعية ومن الخوف والقتل ليتجه إلى الجزائر وإلى مدينة عنابة (التي أصرّ الكاتب على تسميتها باسمها القديم بونة) حاملاً معه رواسب ثورته ليجد نفسه عاشقاً لفتاة (آسيا الأخضر), ويظل شبح الخوف يلاحق هذا الرجل الثوري الهارب من وطنه بحثاً عن التوازن الداخلي في بلدٍ آخر لم يكن منفى بالصورة التقليدية للمنافي حيث تماهت في نفس البطل ذكرى الأحداث والأهوال التي عايشها في العراق مع ذكرى الأهوال التي حملتها آسيا الأخضر عن الثورة الجزائرية.

الشخصية الثانية هي شخصية مهيار الباهلي الذي يتفق مع صديقه مهدي جواد في أفكاره الثورية, والذي شارك في الثورة المسلحة في الأهوار في جنوب العراق, إلا أنه يختلف عن مهدي في كونه كان مثالياً بقدر ما تسمح له الظروف فنراه مخلصاً لزوجته على طول الرواية رغم الاغراءات المتكررة التي تعرض لها من قبل صاحبة البنسيون الذي كان يسكنه (فلة بوعناب), ولا يقيم معها علاقة جنسية إلا قبيل انتهاء الرواية وطرده من الجزائر مع صديقه مهدي وتحت تأثير الحمى والهيستريا التي قاربت الجنون، أي في ظروفٍ غير طبيعية, الأمر الذي ما كان ليحدث لو كان بكامل إرادته.  كما ظهر مهيار كصديقٍ صدوق وفي لمهدي حيث دافع عنه باستماتة أمام مخابرات الحزب البعثي (الذي لم يذكر الكاتب اسمه صراحة) إلى درجة أنه تلقى لأجل هذا ضربة من زجاجة في رأسه. ورغم أن مهيار تعرض أيضاً للطرد من الجزائر مثله مثل مهدي إلا أن أسباب الطرد كانت مختلفة, فمهدي جواد طرد بسبب علاقته بآسيا التي لم تدخل الجامعة بعد, أما مهيار الباهلي فطرد بسبب مجاهرته بالماركسية ودفاعه عن الاشتراكية علناً حتى أثناء الدوام الدراسي وفي حجرة الصف.

ما يبقى مجهولاً غامضاً هو كيف نجا مهيار بعد معركة الأهوار التي قُتل فيها كل أصدقائه وبقي وحده حياً.

الشخصية الثالثة هي فلة بو عناب المرأة الثائرة التي تحولت بعد الثورة إلى عاهرة, والتي حملت في نفسها الكثير من المرارات والإحباطات نتيجةً لما آلت إليه الأمور, والتي كان وجودها ضرورياً لسرد الكثير من الأحاديث وسَوق الآراء التي تسلط الضوء على الواقع في الجزائر بين الماضي والحاضر.

شخصيتنا الرئيسة الأخيرة هي آسيا الأخضر التلميذة سليلة المقاوم العربي الأخضر والتي عبرها تدفقت النقاشات العميقة بينها وبين مهدي جواد, الذي أحبها وأحبته, والذي استحضرت من خلاله شخصية أبيها بكل ما تحمله من أفكار ثورية وقيم عظيمة مقارنةً بيزيد ولد الحاج (زوج أمها لالا فضيلة)  بكل ما تحمله شخصيته من استبداد ومخلفات اجتماعية وتعصب ديني, هذا الليبرالي الذي يجيد فقط جمع المال وتعدد الزوجات والذي يخاف التأميم ويعمل كل جهد لشيطنة الشيوعية.  

اختيار اسم آسيا لبطلة الرواية الجزائرية كان له وقع جميل في نفسي، إذ كأنه دلالة على أن العربي عربي سواءً كان آسيوياً أم افريقياً.

جميع هذه الشخصيات تبدو حائرة مهزومة عاجزة أمام الواقع البراجماتي الذي وجدت كل منها أنه يحيط بها بعد انتهاء الثورات. 

وقد نجح الكاتب في سبر أغوار النفس البشرية المعقدة من خلال رسم شخصياته بواقعية باستخدام لغة حوار مناسبة لكل منها ومختلفة فيما بينها بحيث تعكس هذه اللغة شخصية المتحدث بها وخلفيته الدينية والثقافية والاجتماعية, ولكن يؤخذ على الكاتب انحيازه الواضح للشيوعية حيث جعل شخصياته التي تشاركه نفس الأيديولوجية مثالية, بينما بالغ في تشويه الشخصيات ذات الانتماءات المختلفة.

أعجبني توظيف بعض الكلمات العامية العراقية والجزائرية في الحوار فقد كان موفقاً وأضاف إلى الرواية بعداً واقعياً محبباً إلى النفس.

كما أن لغة الرواية سحرتني منذ السطر الأول حيث كانت جزلةً فصيحةً رشيقة حد الابهار, كما كان وصف الكاتب للأماكن والمشاعر يتصف بسريالية وشاعرية تخطف القلب, رغم التعكير الذي سببته الشتائم الجنسية التي لم أرَ لها داعٍ كما ذكرتُ سابقاً, والتي ربما فرضها طبع الجزائريين والعراقيين الذين وصفهم الكاتب أكثر من مرة وعلى لسان عدة شخصياتٍ بأنهم عصبيين ودمهم حار (سخون).

لكن لا بد من ذكر أن الرواية تتطلب الكثير من الصبر وحضور الذهن للربط بين الأحداث والأزمنة والأمكنة التي ما انفك الكاتب ينتقل بينها بما يشبه أمطار الهذيان والكوابيس السريالية. مما يتعب القارئ الذي عليه لملمة خيوط الأحداث المتشابكة وربطها ببعضها.

الرواية التي قسّمها الكاتب إلى فصولٍ منها فصول السنة مبتدئاً بالخريف هي مزيج من الفلسفة والسياسة والدين والسريالية والواقعية والتاريخ والأدب والجنس والجنون والعبثية والتيه والشبق مقدمةً في قالبٍ بلاغي ساحر, لا يعكر صفوه سوى إطالة السرد الذي بدا مملاً في بعض الأحيان.

أكثر الفصول إيلاماً هو فصل (نشيد الموت) والذي تحدّث فيه الكاتب بالتفصيل عن معارك الأهوار العراقية والصراع المرير لأبطال الثورة في المستنقعات الباردة الموحشة والتي باتت في النهاية مقبرةً لأجسادهم العارية التي قاومت المدافع والطائرات لتغرق في النهاية في مستنقعات الدم والوحل. وتصبح وليمة لا تشابهها وليمة, كما يوحي عنوان الرواية.

بعد الانتهاء من قراءة الرواية يشعر القارئ بالفراغ والعدمية واللا جدوى ويرسّخ هذا الشعور صورة الثائر (عمر يحياوي) أخو لالا فضيلة, والذي جعلنا الكاتب نعايش معاناته خلال فترة اعتقاله ونعاني نفسياً بسبب محاولة هضم تفاصيل تعذيبه المأساوية ليصدمنا الكاتب بما آلت إليه حال هذا المناضل العظيم الذي تحمّل ما لا يُحتمل في سبيل قضيته, لنرى كيف بات في النهاية سكّيراً عربيداً متنقلاً من فراش امرأة إلى فراش أخرى.

أما عن النهاية, فقد كانت موغلة في الرمزية وغير مفهومة كليةً, لكنها وبحسب ما توحيه الأحداث التي سبقتها توحي بنهاية الحب الجارف اللامنطقي بين مهدي جواد المعلم العراقي وبين آسيا الأخضر التلميذة الجزائرية.

أكثر الفقرات وجعاً هي بلا شك هي فقرة القطار, حيث قام الجنود بطلاء عربات قطار بضائع خالية من أية فتحات للتهوية بالقار, ثم كدسوا فيه آلاف الشيوعيين وأطلقوا القطار بسرعةٍ بطيئة تحت الشمس اللاهبة كي يموت كل هؤلاء من الحر ونقص الاوكسجين, لكن عندما علم السائق بالخطة وأوقف القطار وفُتحت العربات قبل الموعد المحدد للموت الجماعي المريع، خرج البشر يتلوون في القيء والقار الساخن بنصف وعي وقد مات من مات منهم. كذلك قضّ مضجعي وصف التعذيب الذي تعرضت له بعض الشخصيات ومنهم الأخضر أبو آسيا, من استخدام الكهرباء على الأعضاء الجنسية إلى تقطير الزئبق في العيون وغيرها من الأساليب الوحشية اللا إنسانية.  

من أجمل الاقتباسات:

 اذا يتموج الحنين لزمن مضى،  يستعاد ولا يعود.  يتقدم كما ينمو شعاع من أفق أو حرف نصلٍ لامع سابحاً في سماوات غريبة داخل مسافات لا تنتهي،  يتقدم ليغوص على مهل في المسام الشفافة لروحٍ غدت وحيدة على حافة الهاوية

تأتي دفقة ريح من النافذة فيضغطها إلى أضلاعه، يبكيان كطفلين.
والآن هما منصهران،  وخائفان وغير محميين سوى بجسديهما. يرتعشان تحت هذه الريح الملعونة.  الريح التي تجتاحهما وتؤاخيهما كالأغصان.  وهما الآن قريبان وأليفان إلفة طائرين فوق صخرة وحيدة عائمة فوق بحر مضطرب.  وفي السر سيقول أحدهما للآخر همساً: خذ بيدي لآخذ بيدك في مهب الريح الزعزع. أنت لي وأنا لك فلنبنِ بيتاً يتحدى الإعصار. ثم تشتبك الأصابع والوجوه والضلوع ومجاري الدم.

حقيقةً انا مندهش من هذا الأسود الذي يطلي كل عالمك.  تبدو لي في معظم الأحيان ملتاثاً بلوثة عدمية تسد كل أبواب الأفق.  لماذا هذا السلب المطلق وهذه الذاتية المقروحة؟  هل أنت وأنا نهاية التاريخ والكون؟  عجيب! 

زمن جديد يطلع.  نجم ساطع في ليل.  امرأة العصور الجديدة التي حلمت بها مذ كانت الدنيا سديماً والعالم هيولي.  حيث لا حب لا توجد حقيقة.  عدم الكون وعدم الحب شيء واحد. 

ليس في الامر فضيحة كما ليست خطيئة أن يحب الإنسان.  العشق دافع طبيعي احتياج الجسد له كاحتياجه للهواء والماء والطعام.  أن تحب فأنت موجود وحيّ.

كما للإنسان حياة واحدة لا حياتان،  وعليه أن يحياها بكل طاقاته قبل أن تفلت منه إلى الهاوية.

إن العمل الأدبي الناجح هو الذي يترك أثراً واضحاً في نفس القارئ لا تمحوه السنون, وهذا ما أعتقد أنه ينطبق على هذه  الرواية.

رغم كل الهجوم الذي تعرضت له الرواية ورغم صعوبة قراءتها إلا أنها تجربة تستحق أن يقوم القارئ بخوضها بنفسه.



دمتم قارئين

شيرين الخس


Tuesday, 10 July 2018

قراءتي لرواية (لوليتا) للكاتب فلاديمير نابوكوف



قراءتي لرواية (لوليتا) للكاتب فلاديمير نابوكوف



رواية لوليتا،  فلاديمير نابوكوف، الطبعة الثانية،  412 صفحة
ترجمة خالد الجبيلي
منشورات الجمل،  بيروت 2012
نشرت باللغة الانجليزية عام 1955 في باريس

عنوان هذه المذكرات الآخر هو (اعترافات رجل أرمل أبيض) كاتب هذه المذكرات هو همبرت همبرت الذي مات في السجن بسكتة قلبية في 16 نوفمبر 1952 قبل مثوله أمام المحكمة ببضعة أيام

طفلة متمردة،  أم أنانية،  مهووس حقير هذه هي شخصيات الرواية
وهي بالإضافة إلى كونها شخصيات تنبض بالحيوية،  إلا انها أيضاً شخصيات تحذرنا من نزعات خطيرة وتبرز لنا شروراً مريعة،  ومن هنا تأتي أهمية هذه الرواية لأعضاء المجتمع كمربين وآباء ليكونوا اكثر حذراً ووعياً لتربية جيل أفضل في عالم ينعم بمزيد من الأمن والطمأنينة

"لوليتا
يا نور حياتي و نار صدري
يا خطيئتي و روحي
أيتها النار المتوقدة في عروقي"
هكذا يفتتح الكاتب مذكراته.
كاتب المذكرات هو نفسه بطل الرواية همبرت همبرت وهو أديب في منتصف العمر مريض باشتهاء الأطفال، يرتبط بعلاقة جنسية مع دولوريس هايز ذات الـ 12 عاماً بعد أن أصبح زوج أمها. "لوليتا" هو لقب دولوريس الخاص. وقد أوصى الكاتب ألا يتم نشر روايته إلا بعد موته وموت دولوريس التي هربت في النهاية منه لتتركه كالمجنون وتتزوج وتؤسس أسرة مستقرة بعيداً عن ظلال الماضي البشع.
اعتمد البطل أسلوب السرد الذاتي لرواية مقاطع مجزأة لوصف أحداث مر بها،  ورغم أنه حاول استعطاف القارئ بوصف أحزانه  وصراعاته الداخلية،  إلا أنه هو نفسه في نهاية الرواية وصف نفسه بالمهووس،  واعترف ببشاعة جريمته بقوله (أكثر الأمور بؤساً في الحياة الأسرية أفضل من المحاكاة الساخرة لزنا المحارم الذي كان يتشاركه مع دولوريس)
لا يملك القارئ إلا أن يشعر بالاشمئزاز والتقزز من المواقف والمشاعر التي سردها الكاتب والتي بدت كأنها اعترافات موجهة للقاضي وهيئة المحلفين في أكثر من موقع من الرواية، رغم أنه اوصى بنشرها للعامة بشروط.
و لابد من الاعتراف أنه على الرغم من طبيعة الرواية الايروتيكية إلا أنه لم يستخدم كاتب هذه المذكرات عبارات نابية أو كلمات بذيئة. وحتى بعد الانتهاء من آخر سطر من الرواية لم أتمكن من تحديد طبيعة مشاعري تجاه هذه الرواية
تأتي اهمية هذه المذكرات من وجهة نظري من كونها تحمل بين طياتها اعترافات ووصف لمشاعر وأفكار مغتصبي الأطفال،  بحيث تتيح لنا معرفة كيف يفكرون ويشعرون وكيف يبررون فعلتهم الشنعاء.
برأيي، فلا يمكن بأي شكل من الأشكال وصف العلاقة بين همبرت ودولوريس بالحب،  لأسباب كثيرة سيتمكن القارئ من ادراكها خلال قراءة المذكرات،  كما أنني لم استطع تبرئة دولوريس الطفلة المراهقة،  كونها من قام بإغواء زوج أمها المتوفية وكونها فقدت عذريتها قبل علاقتها معه في المخيم الصيفي. لكن هذا لا ينفي انها طفلة مسكينة لم تحظَ بطفولة مستقرة هانئة أسوةً بزميلاتها بسبب شخصية أمها الأنانية وطبيعتها العنيدة ووجود الوحش همبرت في حياتها بالإضافة لصديقات السوء.
لكن لا بد من ذكر أن وصف لوليتا وحركاتها ونظراتها وكلماتها جاءت على لسان الكاتب المتورط في هذه الجريمة،  فلا يمكننا الركون كلياً إلى حقيقة وواقعية روايته ووصفه للأحداث. كما أن لغته الرائعة وتعليقاته الساخرة الذكية كان لها مفعول السحر لجعل القارئ يتعاطف معه في عدة مناسبات خلال قراءة الرواية.
ورغم اشمئزازي من هذه العلاقة الشاذة،  إلا أنني اعتقد بأن البطل همبرت كان مريضاً نفسياً وعنده عقدة خُلقت في تلك اللحظة التي كان فيها وهو شاب في سنوات المراهقة يقوم بممارسة الحب مع حبيبته الشابة أنابيل،  حيث لم يتمكنا من إتمام لقائهما وبعدها مباشرةً مرضت حبيبته وماتت،  ليجد نفسه يبحث عنها في الفتيات الصغيرات لتسكنه عقدة الانجذاب إلى ما أسماهن بالحوريات.
وظلت هذه النزعة الشاذة تسكنه، وبعد خمسة وعشرين عاماً، خاض خلالها رحلة مطولة مع العلاج النفسي ومع محاولات بائسة من أجل النجاح الأكاديمي وزواج فاشل بسيدة خانته فطلقها، حملته متاعبه المالية إلى منطقة رامسدايل النائية في الولايات المتحدة. هناك، استأجر غرفة متواضعة في منزل الأرملة شارلوت هايز أم دولوريس ليتزوجها كي يتقرب من ابنتها، وبعدها تجري الرياح بما اشتهت سفينة همبرت لتموت زوجته شارلوت في نفس لحظة قراءتها لمذكراته واكتشافها لميوله الشاذة، ليصطحب بعدها دولوريس بين الولايات ويجبرها على معاشرته بالهدايا حيناً والتهديد أحياناً، لتهرب بعدها مع كاتب مسرحي يقتله همبرت في نهاية الرواية.
ولكن لا يمكن أن نعتبر عقدة همبرت التي خلقت في سنين مراهقته تبريراً لجريمتيه المقززتين اولاهما اغتصاب متكرر للطفة دولوريس وثانيتهما هي جريمة القتل التي ارتكبها بحق الكاتب المسرحي في النهاية والتي ألقي القبض عليه بسببها (حقيقةً شعرت بقرف حقيقي من وصف مشهد القتل الذي وجدته أقرب لأفلام الرعب الرخيصة)،  فقد كان بإمكانه المثابرة على العلاج النفسي، كونه مثقفاً واعياً كما يظهر من خلال الرواية.
اثار استغرابي معلومة في مقدمة الرواية،  لست أعلم مدى صدقها،  تقول: إن ما لا يقل عن 12% من الذكور البالغين الأمريكيين وهو تقدير (متحفظ)  استناداً إلى الدكتورة بلانش شوارزمان (في رواية شفوية)  يمارسون سنوياً بطريقة أو بأخرى التجربة الخاصة ذاتها التي يصفها همبرت همبرت بهذه الطريقة البائسة.
وقد اقترح الدكتور جون راي الابن،  والذي كتب مقدمة هذه الرواية أنه لو قام همبرت همبرت في صيف عام 1947 المشؤوم بزيارة طبيب نفساني مختص لما وقعت أي كارثة ولما رأى هذا الكتاب النور.
وخلال قراءتي للريڤيوهات المتعددة حول الرواية،  كعادتي مع كل كتاب أقرأه بحيث استمتع بالتعرف على آراء أشخاص آخرين حول الكتب التي أقرأها،  لفت نظري رأي وجدته عميقاً رغم اعتقادي أنه بعيد عن الواقع،  ألا وهو:
(نشرت الرواية سنة 1955 أي بعد خروج اوروبا من حربيين داميتين و ما عرف بمشروع مارشال لبناء اوروبا من جديد، فربما  أراد الكاتب بالرواية اسقاطاً سياسياً ما فهمبرت رجلُ كهل مرّ بتجارب جعلت نفسيته خراباً يصعب اعماره من جديد، ربما أراد نابكوف  أن ينتقد تعلق اوروبا العجوز بأمريكا الفتية فتحاول من خلالها "أمريكا - لوليتا" اعادة اعمار ذلك الخراب.)

حققت رواية لوليتا مكانة كلاسيكية وأصبحت إحدى أفضل وأشهر الأمثلة المثيرة للجدل في أدب القرن العشرين. دخل الاسم الثقافة الشعبية لوصف الفتاة التي تنضج جنسياً قبل الأوان. أنتج ستانلي كوبريك الرواية كفيلم سينمائي عام 1962، ثم أنتجها أدريان لين مرة أخرى سينمائياً عام 1997. كما عرضت أكثر من مرة على خشبة المسرح، وأنتج عنها أوبراتين وعرضي باليه وعرض موسيقي فاشل على مسرح برودواي.
جدير بالذكر،  أن الرواية لم تكن مجرد خيال، بل إن أحداثها وقعت بالفعل. حيث أوضح براين بويد، كاتب سيرة نابوكوف الذاتية، أن مؤلفها قام بأبحاث كثيرة تحضيراً لروايته هذه. كان يقرأ بدقة كل جرائم القتل والاعتداء الجنسي في الصحف آنذاك، إلى أن صادف حادثة الفتاة سالي هورنر (12 عاماً) من نيوجرسي التي «اعتقلها» رجل أربعيني، وهي تقوم بسرقة دفتر، وأوهمها أنه من مكتب التحقيقات الفيديرالي، ليجبرها على البقاء معه كعشيقة لعامين كاملين، والتنقل معه عبر الولايات الأميركية من نزل إلى آخر، خوفاً من أن ينفذ تهديده ويدخلها إلى سجن إصلاحي للفتيات «أمثالها». القصة التي أسرت انتباه نابوكوف، إلى حد أنه دوّنها بتفاصيلها في دفتره، تشبه إلى حد كبير ما حصل مع «لوليتا» وإن قام بتحوير بعض الأحداث.
 صُنفت رواية (لوليتا)  طويلاً في خانة الأدب الإيروتيكي ولكنها ليست كذلك فعلاً،  كما يؤكد كاتبها والنقاد. المقاطع الحميمة فيها شحيحة، إلّا أن ثيمتها التي تفضح العلاقة المحرمة بين رجل في منتصف العمر وفتاة في الثانية عشرة من عمرها جعلتها ضمن قائمة الروايات البورنوغرافية. ولعلّ هذا هو السبب وراء رفضها من دور نشر عدة، وقيام الحكومة الفرنسية بحظرها حينذاك.
كما أن خمسة من الناشرين الأمريكيين رفضوا نشر الكتاب خوفًا من محاكمتهم بتهمة الترويج للرذيلة. وقد نشر لأول مرة في فرنسا من قبل أولمبيا برس المتخصصة في طباعة ونشر الكتب الإباحية وذلك في عام 1955. لم يكن نابوكوف يعلم بذلك بطبيعة الحال، فقد كان جلّ همه أن يجد من يطبع الكتاب، وقد ارتاح أخيرًا عندما وجد من ينشر كتابه، دون أن يدري بأن الناشر سيكون له دور (بحكم طبيعة عمله) في تكريس السمعة السيئة لكتابه!
أدرجت رواية لوليتا في قائمة تايمز لأفضل 100 رواية باللغة الإنجليزية من 1023 حتى 2005. وقد احتلت المرتبة الرابعة في قائمة المكتبة الحديثة لعام 1998 لأفضل 100 رواية في القرن العشرين. كما أدرجت في قائمة أفضل 100 كتاب في كل العصور.
الجدير في الذكر أن الآراء تتضارب بشدة حول هذه الرواية فنجد من يعتبرها رواية مقززة رخيصة فاحشة ينبغي منعها وهذا ما حصل ولا يزال يحصل في دولٍ عديدة،  والآخرون يرونها تحفة أدبية تستحق الاحتفال بها.

اعتراف شخصي: لم تشدني الرواية ولم تنجح في أن تختطفني من بين المشاغل اليومية
ورغم أنني تركتها اكثر من مرة لأقرأ شيئاً آخر،  إلا أنني عدت إليها ولم اتركها حتى انهيتها وذلك لأن صديقاً غالياً أثق بذائقته الأدبية اقترحها عليي خلال نقاش ثقافي من نقاشاتنا الممتعة
وتبقى نصيحتي لكم أحبتي أن تخوضوا تجربة قراءة أي كتاب تسمعون عنه حتى تحكموا عليه بأنفسكم،  فلكل قارئٍ ذائقته الخاصة التي تعتمد على خبراته وتربيته وثقافته وقراءاته السابقة وتفضيلاته
شكر من القلب للصديق الذي أشار عليّ بقراءة هذه الرواية،  والذي لم تفارقني الآراء التي أبداها خلال حديثه عنها،  طيلة فترة قراءتي لها وعلى مدار ال 412 صفحة
دمتم قارئين
محبتكم شيرين الخس

Monday, 2 July 2018

قراءة في رواية (ظل الريح) للكاتب كارلوس زافون

 قراءة في رواية (ظل الريح ) للكاتب الاسباني كارلوس زافون




(ستقرأ الرواية في جلسة واحدة ولن تنام الليل وانت تتعقب ظل الريح،  لن يسمح لك زافون بأن تترك الكتاب قبل ان تبلغ النهاية)  هذا ما قاله عنها يوشكا فيشر وزير خارجية المانيا الاسبق 
هذه الرواية هي الجزء الأول من رباعية (مقبرة الكتب المنسية ). والتي صدر منها حتى الآن 3 أجزاء وهي (ظل الريح )، ( لعبة الملاك)،  (سجين السماء)  ولم يترجم 
 للعربية سوى أول جزئين حتى الآن،  وهما متوفران الكترونياً لمن يرغب
الجميل أن هذه الأجزاء غير مترابطة،  ويمكن قراءة أي منها على نحو مستقل

تبدأ أحداث الرواية حين يصطحب سيمبري الأب ابنه دانيال الذي فقد أمه ويفتقدها بشدة ، الى مقبرة الكتب المنسية ، ليختار كتاباً بشكل عشوائي على شرط أن يحافظ عليه مدى الحياة ، وهكذا يتدخل القدر ليجعل دانيال يختار روايةً للكاتب خوليان كاراكس، ومن هنا يجد دانيال نفسه متورطاً رغماً عنه في حياة أناس آخرين لتتشابك بعدها الأحداث بشكلٍ غير متوقع
رواية تحبس الانفاس، تجد نفسك متورطاً في فك طلاسمها،  سلسلة لا نهائية من 
المفاجآت،  وصف مذهل لأعمق اعماق النفس البشرية وما يعتريها من افكار ومشاعر،  تشابيه بليغة وتصويرات جميلة مدهشة
عدد كبير من الشخصيات التي تشكل كل منها جزءاً من رقعة البزل او لوحة الفسيفساء
كل شخصية تصلح لتكون بطلاً للرواية ولكل، منها حياة كاملة بكل تفاصيلها وهي جميعها ضرورية لتكوين النسيج العام للقصة
كل شخصية قد وضعت بالمقادير المناسبة لإعداد طبخة روائية رائعة المذاق
 رغم كثرة التفاصيل، فلا يوجد في الرواية تفصيل فيها زائد عن الحاجة او غير   ضروري للحبكة الكلية
تبدو الاسرار المتتالية مغوية كدمى الماتريوشكا الروسية كما شبهتها مجلة لو فيغارو الفرنسية
برع الكاتب بتوريط القراء في روايته الى أبعد درجة،  حيث تجد نفسك تقرأها باستخدام حواسك الخمسة وخيالك
تكره احدى الشخصيات طيلة الاحداث وتراها شيطاناً، اًلتكتشف فجأة ان الشيطان هو البطل الذي ظننته مظلوم لتتحول مشاعرك ودون سابق انذار من مشاعر بغض وكره لا حدود لهما الى مشاعر تعاطف وحنان عميقين


مع كثرة الشخصيات وتشابك الاحداث،  توقعت ان الكاتب قد تفلت منه تفصيلة صغيرة أو أن يقع في فخ تضارب الاحداث مع بعضها،  لكنه برهن عن اتقان شديد في حبكة قصته وادق تفاصيلها
رغم العدد الكبير من الشخصيات التي تحيا في عصور مختلفة ، إلا أننا نجد في هذه الرواية أن تاريخ البشر يعيد نفسه ، ورغم أننا يمكننا التنبؤ بالأحداث والاختيارات والتصرفات في حياة الأشخاص حولنا،  الا أننا نتفاجأ كل مرة وكأنها أول مرة
لن أحرق عليكم الأحداث، لكني بلا شك أنصحكم بقراءة هذه الرواية لتستمتعوا كما استمتعت بها، فرغم كونها رواية طويلة،  لكنها وبلا شك تستحق القراءة اكثر من مرة
الترجمة متقنة بشكلٍ عجيب واللغة العربية سلسة وراقية ومثالية،  ويظهر جلياً كمية الجهد التي بذلها المترجم في عمله 

معلومات عن الرواية
كارلوس زافون،  ظل الريح،  521 صفحة
المترجم معاوية عبد المجيد
سوري من مواليد 1985
مقدمة متميزة جداً من أحمد مجدي همام
دار النشر مسكيلياني،  تونس - بيروت 2016

لابد كذلك من ذكر روعة الغلاف الذي صممه الشاعر محمد النبعان،  والذي خط كلماته الفنان سمير قويعة


 دمتم قارئين
محبتكم شيرين الخس

Sunday, 3 June 2018

قراءة في رواية (تراب الماس) للكاتب أحمد مراد

قراءة في رواية (تراب الماس) للكاتب أحمد مراد
"حين يصبح القتل أثراً جانبياً"

تقع الرواية في 389 صفحة من القطع المتوسط – دار النشر: دار الشروق – أول إصدار لها كان عام 2010


حبكة متقنة, أحداث بوليسية مشوّقة, أسلوب قصصي ماتع, تفاصيل علمية وتاريخية, باختصار هي رواية سينمائية بامتياز, لا تملك وأنت تقرأها إلا أن تتخيل شخوصها يقفزون من بين دفتي الكتاب ليشاركوك تفاصيل حيواتهم فتشعر أنك تركت كرسيك كقارئ لتنغمس بكلّيتك في خضم الأحداث وتختبر مختلف أنواع المشاعر التي تتراوح بين الألم والحزن والحنق والغضب وغيرها من المشاع الإنسانية, وتشاركهم تفكيرهم وحيرتهم وقراراتهم, وتشعر أنك معنيّ بكل فعلً يقومون به وكل قرارً يتخذونه.
رواية تنتهي من قراءتها فلا تنتهي هي منك, بل تتركك مسكوناً بقضيةً أخلاقيةً تقضّ مضجعك وتحرمك من الراحة والهدوء لأيامً وليالً طويلة. تتلخص هذه القضية بسؤالً يدور حول الصراع الأبدي بين الخير والشر. السؤال المعضلة هنا هو (ماذا لو امتلكت الخيار بأن تقوم بفعلً شرير صغير لتوقف به شروراً عظيمة قد تطالك وتطال غيرك من الأبرياء والضعفاء الذين لا ناصر لهم إلا الله؟). هل سيكون قرارك حينها أن تُنصّب من نفسك قاضياً وحاكماً فتعقد في سرّك محكمةً تحكم خلالها بإنهاء حياة إنسان (هو مصدر شرورٍ عظيمة) ولا تكتفي بهذا بل تمضي قدماً لتنفذ فيه بيدك حكم الإعدام بدمٍ باردٍ وضميرٍ مرتاح؟ أم كنت لتفضّل أن تتناسى الأداة السحرية الرهيبة التي رمتها الصدفة في طريقك وتترك الأقدار تأخذ مجراها, رغم أنه يدنو أجلك قبل أن ترى القدر يأخذ بثأرك ويقوم بصفية الحسابات, حيث أن للقدر غالباً حسابات أخرى ومنطق لا تفهمه عقولنا دائماً؟
هذا السؤال كان هو الحدث المحوري الذي عصف بحياة بطلنا (طه الزهّار) ليقلبها رأساً على عقب, فبعد أن كان مجرد إنسانٍ بسيط يعمل مندوب شركةٍ طبية يعيش حياةً باهتةً رتيبة ويعيش وحيداً مع أبيه المقعد بعد حادثةٍ عائليةٍ مؤسفة تعرضا لها, ففجأة ودون سابق إنذار يجد نفسه أمام جثة أبيه وأوراق مذكراتً تحمل في طياتها سراً رهيباً وزجاجةٍ تحوي (البودرة السحرية), ويقف وجهاً لوجه أما فكرةٍ رهيبةٍ مضمونها (غلطةٌ صغيرة نصلح بها غلطاتٍ أكبر) هذا المنطق الثوري الغريب الذي تبنّاه أبوه والذي يختار صاحبه التدخل في مجريات القدر ولا يكتفي بموقف المشاهد منها.
وهكذا يجد (طه) الرجل العادي معدوم الحيلة نفسه أمام جريمة قتلٍ يبدأ البحث وراءها بدافع الانتقام مع صديقه الصدوق والفتاة التي أحبها في أشد أيام حياته خطورةً وحيرة, ليكتشف أنه أمام حلين لا ثالث لهما فإما أن يستسلم بخنوعٍ لكل هذا الظلم القاتم الذي وجد نفسه محاطاً به, وإما أن ينصّب نفسه يداً للعدالة, وبعد صراعٍ وتفكير طويلين اختار ثانيهما لتبدأ سلسلةٌ الانتقام التي قد لا تنتهي مع انتهاء الرواية مفتوحة النهاية.
لتكتمل روعة الرواية, قام الكاتب المبدع أحمد مراد بتصميم غلاف معبّر للرواية, حيث يظهر فيه البطل (طه الزهّار) حاملاً وراء ظهره مذكرات أبيه التي لطختها الدماء وتظهر في خلفية الصورة إحدى ميادين المدينة يغطيها اللون الأحمر كدلالة على انتشار رقعة الظلم وربما الانتقام.
لابد في النهاية من أن اذكر أن من سلبيات الرواية هي لغة الحوار التي حملت الكثير من الشتائم والسباب والألفاظ الخارجة واللهجة العامية, التي ربما قصد الكاتب من خلالها إضفاء واقعيةٍ أعمق على قصته. ورغم الانزعاج الذي من الممكن أن يتسبب به هذا للقارئ الحساس, إلا أنني أعتقد أنها لا تنتقص من روعة الرواية وعمقها.
في الختام, لو قُدّر لك عزيزي القارئ أن تمتلك أداةً سحريةً كالتي امتلكها بطلنا (طه الزهّار), فهل كنت لتفعل ما فعل؟؟ أم أن لك رأيٌ آخر؟؟
ملاحظة: لم أقم بذكر أيٍ من التفاصيل, لعل ما كتبته يشجعك على سبر أغوار هذه الرواية الشيقة لتحكم بنفسك إن كنتَ توافقني الرأي فيما كتبته أو لا.

دمتم قارئين
شيرين الخس
    


Wednesday, 16 May 2018

قراءة في رواية (بذلة الغوص والفراشة) للكاتب جان دومينيك بوبي


من رحم الممكن يولد المستحيل بقوة الإرادة

قراءة في رواية (بذلة الغوص والفراشة) للكاتب جان دومينيك بوبي






والذي نفسه بغير جمال        لا يرى في الوجود شيئاً جميلاً

أيهذا الشاكي وما بك داءٌ        كن جميلاً ترى الوجود جميلاً



رافقني هذين البيتين طيلة قراءاتي للرواية التي اعتبرها مذكرات أكثر من كونها رواية.

أول ما سمعته عن الرواية كان عبارة (الرواية التي كتبت برمش العين اليسرى), في البداية ظننته تعبيراً مجازياً لكنني وأثناء قراءتي للرواية اكتشفت أنها وصفٌ واقعي ودقيق للطريقة المذهلة التي كُتبت فيها الرواية حيث أن كاتبها جان دومينيك أصيب فجأة ودون سابق إنذار بمتلازمة المنحبس (حيث لا يستطيع المصاب بهذه المتلازمة تحريك أي عضو من أعضاء جسده سوى جفنه الأيسر), فاضطر بعدها لاعتزال حياته الحافلة بالانشغالات حيث كان يعمل في مجلة نسائية اسمها (Elle) وكان مشغولاً أغلب وقته.

لتنقلب حياته رأساً على عقب, من حياةٍ صاخبةٍ ذات إيقاعٍ سريعٍ إلى حياة فارغة من أي انشغالات لا شيء فيها سوى الفراغ القاتل والوقت الطويل الذي لا يملؤه شيء سوى الكثير من الأفكار والذكريات والأمنيات التي لن تتحقق.

حاولت تخيل نفسي للحظةٍ مكان الكاتب, فأرعبتني الفكرة, حيث أحسست أنني أكاد أفقد عقلي لمجرد التفكير باحتمالية هذا. وأعتقد أن الكثير من الناس سيقع حتماً فريسة اليأس والإحباط والاكتئاب لو أنه تعرض لحادثةٍ من هذا النوع أو حتى أبسط منها, إلا أن كاتبنا البطل صاحب الروح المقاتلة والذي شبّه روحه في صفحات مذكراته بفراشةٍ, أبى أن يستسلم لمشاعر اليأس والاحباط, بل نراه يلون أفكاره بالكوميديا في أغلب الأوقات وأكثرها حلكةً. وجعل هذه الفراشة المحبوسة داخل جلده الذي شبهه ببذلة غوص تكاد تخنقه وتثقل على أنفاسه, تحلق متنقلةً في المكان والزمان فتارةً تحلق نحو الماضي لتستجلب شخوصاً عزيزةً على الكاتب وتذكره بأحداثٍ مضت لتوقظ داخله الحنين والاشتياق والتحسر والغضب والفرح, وتارةً تنتقل إلى أماكن تاق لزيارتها لكنه لم يستطع أن يفعل.

هذا الإنسان العنيد صاحب الروح القوية رغم ضعفها حاول أقصى جهده بالتعاون مع من حوله إلى أن تمكن من إيجاد طريقة تتيح له التواصل مع حوله. بدأت بدائية فرفة واحدة من عينه اليسرى كانت تعني (نعم), ورفتان كانت تعني (لا), ثم ساعدته اختصاصية النطق في المستشفى البحري الذي بات مقر إقامته الدائم (كلود ماندبيل) على التواصل بشكلٍ أفضل حيث كانت تتلو عليه أحرف الأبجدية مرتبةً حسب الحروف الأكثر استخداماً في  اللغة الفرنسية (نظام ESA) وحين يصل إلى الحرف المطلوب يرف بعينه اليسرى مرةً واحدة فتقوم هي بتدوينه لتنتقل لسرد الأبجدية مرةً تلو الأخرى إلى أن تتكون كلمة فكلمة, وبهذه الطريقة المضنية قام كاتبنا بكتابة هذا الكتاب الذي شاركنا فيه تقلبات مشاعره وأفكاره بعد أن أصبح جسده ثقيلاً غير متحرك كبذلة غوص بينما بقيت روحه مرفرفة كفراشةٍ تتجول به في كل مكانٍ وزمان.

الجدير بالذكر أن كتابنا الذي أطلق عليه الكاتب اسم (دفاتر رحلة ثابتة) ,والذي يتجاوز عدد صفحاته المائة صفحة بقليل, قد تطلّّب من الكاتب 200 ألف رفة جفنٍ حتى رأى النور وقد مات كاتبه بعد 3 أيامٍ من صدوره, وكأنه استسلم للموت بعد أن أنهى مهمته بإيداع كل مشاعره وأفكاره بين طيات هذا الكتاب.

توقفت كثيراً أثناء قراءتي للكتاب عند العديد من المقاطع, مراتٍ لأنني شعرت بحزنٍ عارم لم أتمكن معه من متابعة القراءة حينها, ومراتٍ بسبب عمق الفكرة التي وردت والتي احتاجت مني وقتاً لهضمها.

ابتلاءات العالم قد تكون أقسى مما نتخيل, ومن أصعبها ما يعانيه سجناء متلازمة المنحبس, فهم يشعرون بكل شيء ولكنهم .

حيث ذكر الكاتب في أحد المقاطع معاناته مع الأصوات البعيدة التي تبدو لأذنيه مشوهةً ومضخمةً بطريقةٍ مؤلمة وصبره الإجباري عليها إلى أن يجيء أحدهم فيغلق باب غرفته ليرحمه من أصوات أحذية المارين في الممر الطويل أمام غرفته.

وفي مقطع آخر, يتحسر الكاتب على أنه لم يتعلم أسماء الأصناف المختلفة لخمور بوردو من صديقٍ له كان صحفياً تم احتجازه 3 سنواتٍ في زنزانةٍ ببيروت أثناء تغطيته لأحداث الحرب الأهلية, حيث قضى هذا الصديق وقته الطويل في الزنزانة وهو يعدد أسماء هذه الخمور كي لا يصاب بالجنون,  وهكذا فكان على كاتبنا أن يبحث عن تعدادٍ آخر يؤثث ساعاته الأكثر ركوداً, كما ذكر.

وقد أعجبني وصف الكاتب لبعض الرسائل التي كانت تصله من أشخاصٍ عرفهم في حياته وذلك بعد أن بات يراسلهم بطريقة رفة العين التي اعتمدها لكتابة هذا الكتاب, حيث قال: (بعضها لا تخلو من الأهمية. تتحدث عن معنى الحياة, وسيادة الروح وعن السر الكامن في كل وجود. وفي ظاهرةٍ غريبة لانقلاب الأوضاع, لاح لي أن أولئك الذين أقمت معهم أبسط العلاقات هم من يضغطون إلى أقصى حد في طرح هذه الأسئلة الجوهرية, وأن خفتهم تحجب عمقهم. هل كنت أعمى وأصم؟ أم أن نور المأساة ضروري لينير لرجلٍ نهاره الحقيقي؟ هناك رسائل أخرى تروي في بساطةٍ أحداثاً صغيرةً لتبرز انسياب الزمن, زهورٌ تقطف عند الغسق, رتابة يوم أحدٍ ممطر, بكاء طفل قبل أن ينام. هذه العينات من الحياة, المأخوذة من اللب, هذه النفحات من السعادة, أثارت عواطفي أكثر من أي شيءٍ آخر. أحتفظ بها مثلما يُحتفظ بكنز. ويوماً ما سأسعى لإلصاق بعضها بعض لصنع شريطةٍ من ألف مترٍ ترفرف في مهب الريح, مثل رايةٍ معلنةً مجد الصداقة)

أما عن أقسى المقاطع في نظري على الإطلاق فكانت وصف مشاعره وهو يلاعب ابنه (لعبة المشنوق), حيث قال (اجتاحتني موجة من الحزن. هو ذا تيوفيل, ابني, جالساً أمامي بأدب, وجهه على بعد 50 سنتمتراً عن وجهي, وأنا أبوه لا أملك حتى حقي البسيط في تمرير يدي على شعره الكث, والإمساك بقفاه الخفيفة كالريشة, وهصر جسده الصغير الناضح نعومةً ودفئاً. كيف أقولها له؟ هذا فظيع, هذا جائر, هذا بغيض, هذا شنيع. فجأة انهرت تماماً. جرت دموعي, وانفلتت من حلقي حشرجةً أفزعت ثيوفيل. لا تخف يا صغيري, أحبك.)

رغم أن هذا الكتاب لا يتعدى كونه مذكرات وأفكار وتجارب شخصية للكاتب, إلا أنها برأيي تستحق القراءة

فعلى الرغم من الحزن والألم الذي يعتصر قلبك خلال قراءتها إلا أن هذا الكتاب يعتبر دعوةً إلى التشبث بالحياة والمحاربة في سبيل العيش بسعادة والاستمتاع بنعم الله سبحانه.

هي باختصار, دعوةٌ للعاطلين عن الأمل والواقعين في مستنقع اليأس إل الكف عن الاستسلام, وكسر قيود أرواحهم الوهمية والبدء بالحياة والشعور بالامتنان لما يملكون من نعمٍ لا تعد ولا تحصى.

تُرجمت الرواية المكتوبة باللغة الفرنسية إلى العديد من اللغات منها الإنجليزية والعربية.



دمتم قارئين

بقلم شيرين الخس



.






Sunday, 25 February 2018

قراءتي في رواية (طعام معاناة حب)- آسلي بيركر




لكلٍ منا طريقته الخاصة في التعامل مع الأزمات والضغوط النفسية التي يتعرّض لها والتي تساعده بشكلٍ أو بآخر على التكيّف مع هذه الأزمات والضغوط التي قد يجد نفسه محاطاً بها فجأةً دون سابق إنذار واختيار كما حدث مع الأبطال الثلاثة لرواية (طعام..معاناة..حب) للكاتبة التركية آسلي بيركر, وعنوانها الأصلي ( Sufle ) والتي تصحبنا على مدار 311 صفحة في رحلةٍ عميقةٍ متعبةٍ لنغوص في العوالم الداخلية لثلاثة أشخاص من بلدان مختلفة لدى كلٍ منهم أحلام وآمال وخلفيات ثقافية واجتماعية مختلفة جداً لا رابط بينهم سوى الطريقة التي اختاروها للتكيف مع الأزمات التي وجد كلٌّ منهم نفسه فجأةً محاطاً بها دون سبيلٍ للخلاص منها في المدى المنظور, هذه الطريقة المشتركة هي تجربة الطبخ وخاصة محاولاتهم المتكررة لإعداد وصفة ناجحة للسوفليه 
البطلة الأولى هي ليليا الفليبينية التي تهاجر في شبابها إلى أمريكا بحثاً عن مستقبلٍ مشرق لتمر عليها السنين وتجد نفسها فجأة امرأة ستينية مجبرةً على الاعتناء بزوجها الأمريكي بارد المشاعر الذي بات عاجزاً عن الحركة دون مساعدتها, وهكذا تلجأ ليليا إلى مطبخها لتستعين على مأساتها بتجربة وصفات الطبخ الجديدة والمتنوعة مع أناسٍ من خلفيات متنوعة أحاطت نفسها بهم علّهم يذيبون الصقيع الذي يزحف إلى قلبها من حياتها الزوجية الباردة.  فإلى أي مدى ستتمكن ليليا من التعايش مع كل هذا الصقيع؟ هل ينبض قلبها من جديد؟ أم أنها سوف تستسلم لقدرها؟
البطل الثاني هو مارك الفرنسي عاشق المجلات الفكاهية الذي أمضى 22 عاماً من عمره ذائباً في شخصية وعالم زوجته الحبيبة كلارا والذي كان ظلاً لها طيلة هذه الأعوام ليجد نفسه فجأةً مضطراً لمواجهة هذا العالم وحيداً بعد وفاة زوجته الصادمة, ليجد نفسه عاجزاً عن الاستمرار في الحياة بعد وفاة حبيبة روحه وصديقته الوحيدة فيعيش فترةً طويلة غارقاً في عزلة اختيارية واكتئابٍ شديدين لدرجة تجعل كل من حوله يخافون عليه من الانتحار, قبل أن يقرر أن يواجه كل هذا الحزن والتعامل معه بممارسة الطبخ الذي كان سابقاً محوراً لحياة زوجته الراحلة, هذه التجربة التي سيتعلم منها مارك الكثير
البطلة الثالثة هي فيردا المرأة التركية التي لم تعش منذ طفولتها حياةً طبيعية بسبب طبيعة أمها الصعبة حيث اعتادت هذه الأخيرة على تضخيم كل شيء وطالما استمتعت بادعائها للمرض والتعب عند أقل وعكة أو حادثة, فحرمت ابنتها من أن تحيا حياةً طبيعية كسائر صديقاتها, وهكذا وبعد مرور السنين تجد فيردا نفسها مضطرةً للاعتناء بوالدتها ذات ال 82 عاماً والتي كسرت وركها ورفضت الخضوع للعلاج الفيزيائي لسوء حظ فيردا, والتي أدركت منذ تلك اللحظة أن أصعب أيامها بدأت للتو
وتفاجئ فيردا كل يوم بمستوى أعلى من المأساة التي لا تجد لنفسها مهرباً منها سوى مطبخها الذي تلجأ إلى تجربة وصفاتٍ جديدةٍ فيه لتجد فيه متنفساً لها, لكن إلى أي مدى تفلح هذه الخطة؟ وهل ستتمكن فيردا من التكيف مع الضغط المتزايد؟
لن أحرق الأحداث المشوقة لهذه الرواية التي تتجاوز كونها روايةً عادية, لتتحول إلى رحلة في أعمق أعماق النفس الإنسانية للتعرف عن كثب على كل ما يعتمل داخلها من مشاعرٍ حيث يعيش القارئ مع الأبطال أحزانهم وآلامهم وانكساراتهم ومحاولاتهم المستميتة للتشبث بالحياة والاستمرار في محاولة العيش فيها رغم كل الصعوبات
ولابد هنا من ذكر أنني وجدت التنقل المستمر بين القصص الثلاثة متعباً في البداية, إلا أنني سرعان ما بدأت استمتع به ووجدته أضاف الكثير من التشويق والتفرّد لهذه الرواية الشيّقة.
بقي أن اذكر أن رواية (طعام..معاناة...حب) ,و التي ظننها خطأً للوهلة الأولى نسخة مقلدة من الرواية ذائعة الصيت (طعام, صلاة, حب) للكاتبة اليزابيث جيلبرت والتي تحولت إلى فيلم رائع للفاتنة جوليا روبرتس, من ترجمة زينة ادريس
إن كنت ممن تشده العوالم الداخلية للبشر وممن يعشقون سبر أغوار النفس البشرية ومعايشة المشاعر الإنسانية المختلفة, فهذه الرواية ستكون بالتأكيد تجربة مميزة ستعجبك ولا شك.

دمتم قارئين
 شيرين الخس