قراءة
في رواية (ناقة صالحة) للكاتب الكويتي سعود السنعوسي
الرواية
من منشورات الدار العربية للعلوم – الطبعة الأولى آب 2019 – عدد صفحاتها 173
لوحة
الغلاف للفنانة مشاعل الفيصل
الرواية
هي خامس رواية للكاتب الشاب وهي على التوالي (سجين المرايا – 2010) – (ساق البامبو-2012)
– (فئران أمي حصة- 2015) – (حمام الدار – 2017) – (ناقة صالحة- 2019), وقد كتب
أيضاً عملين مسرحيين هما (مذكرات بحار – 2019 مسرحية غنائية) – (نيو جبلة – 2020)
والتي قدمت مؤخراً على مسرح مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي
ها أنا
أقع مجدداً في فخ هذا الكاتب العبقري الذي برع دائماً في لعبة المسافة بين الحقيقة
والخيال بطريقة تفرد بها وحده, حيث أدرج ملحقاً تاريخياً (وهمياً كما قيل) ليضيف
بعداً واقعياً لروايته مستغلاً فقر معرفة القراء بالشاعر دخيل بن أسمر, فأجدني, كما غالبية
القراء حسب ما أظن, أبحث عن شخوص الرواية في فضاء الانترنت محاولةً إيجاد إجابةٍ
شافية لسؤال طرحته المقدمة الغنائية لمسلسلٍ اشتهر في طفولتي باسم (كان يا ما كان)
حيث تقول كلمات المقدمة "هل حدثت هذي الأسطورة حقاً في تلك الأيام؟ والشخصيات
المكتوبة هل عاشت أم كانت أوهام؟"
لكنني
لم أجد ضالتي, فأعود خالية الوفاض مكتفيةً بجمال هذه التحفة الأدبية الجديدة لهذا
العبقري والاثر العميق الذي تركته في نفسي.
تدور
احداث هذه الرواية جغرافياً في فضاء الصحراء بين إمارة الكويت وحاثل, وزمنياً في
بدايات القرن العشرين, قبل أن تولد دولة الكويت الحديثة وتحديداً في فترة معركة
الصريف التي خاضها آل الصباح وآل سعود وحلفائهم من قبائل التخوم ضد آل الرشيد.
تلعب
اللغة في هذه الرواية دور البطولة جنباً إلى جنب مع أبطالها وحيواناتهم التي تتداخل
مصائرها مع مصائر الابطال وتتماهى في شخوصهم.
فلا
يغيب عن ذهني, على امتداد الأحداث, بيت الشعر الشهير للمنخل اليشكري (أحبها وتحبني,
ويحب ناقتها بعيري)
لم
يتخلى الكاتب عن لغته الفصحى التي ضمنها العديد من المصطلحات البدوية التي كانت
مناسبةً جداً لزمان ومكان الرواية, حيث جاءت اللغة وكأنها مفصلة لهذه الحقبة
الزمنية وطبيعة الصحراء وحياة البدو البسيطة القاسية في تلك الديار التي اسماها
الكاتب (ديار صالحة).
أما عن
طريقة السرد فقد كانت سلسةً رشيقة, رغم اختلاف الرواة الذين اختارهم الكاتب ليخلّد
على ألسنتهم قصة العشق التي لم يقدّر لها ان تكتمل.
الرواية
مبنية على أغنية منسوبة للشاعر دخيل بن أسمر – الشاعر الذي ولد في الكويت عام 1880
ومات فيها عام 1987 ولم يحمل جنسيتها) والذي اشتهر بقصيدة (الخلوج) والتي نقلها
ودوّنها طلال بن عبد الرحمن الذي كان أجيراً عند الشاعر في أربعينيات القرن الماضي
– يقال أن القصيدة في الواقع للشاعر محمد بن عبد الله العوني- التي افتتح الكاتب روايته بأبيات منها:
غيمتك
شحّت .... ومالح كل موج
أعطش,
ويا كويت بيرك مالحة
ومنزلك
قلبي, وأنا لولا الخلوج
ما أترك
دياري, لديرة صالحة
تتداخل
موضوعات الرواية, لتظهر ثيمة العشق الذي لا يكتمل على السطح, بينما تتضمن الرواية في
العمق موضوعاتٍ منها أعراف الصحراء القاسية, والاغتراب الحقيقي والنفسي, حيث تعبر
عن هذا الإغتراب الأبيات التي استهل بها الكاتب أول فصول روايته للشاعر دخيل
الخليفة المولود عام 1964, والذي تشابه اسمه مع اسم بطل الرواية من قصيدته (صهيلٌ
مؤجل):
لا
نجمة في الليل تنعشني
بضحكتها
ولا
عنوان من أفلوا
يضيء
دروب من ظلوا
ولا
رحب السبيل
أبكي
وعشقكِ/
قبر اجدادي
وطعم
الذكريات يضج بي
(يا
عاشق الرمل الذي لم يحتمل قدميك
لحظة
خطوها
صبرٌ
جميل)
يروي
السنعوسي روايته على لسان عدة شخصياتٍ مستخدماً ضمير المتكلم لتكتمل في ذهن القارئ
الحكاية بجمع خطوطها المتداخلة.
الرواية
هي عن الشاب الشاعر دخيل بن أسمر الذي عشق ابنة عمته صالحة آل مهروس – بنت أبيها-
ناقشة الحناء, والتي يتم تزويجها غصباً لابن عمها ف (الخال خلي والعم ولي) كما هو
العرف في الصحراء... تتماهى حياة صالحة بحياة ناقتها الأثيرة (وضحى), وتتقاسم الاثنتان
نفس المصير المشؤوم من يتمٍ وعشقٍ وثكلٍ وموت.
دخيل
الذي يجد نفسه مضطراً للرحيل عن دياره الأثيرة, نتيجة مؤامرة دنيئة من فالح آل
مهروس ابن عم صالحة الذي أحبها والتي تزوجت أخاه صالحاً الذي طالما كان غريمه في
حب أبيه, إلى إمارة الكويت العدوة فيقول واصفاً اغترابه (لفظتني الصحراء إلى
مدينةٍ ترفضني.. وعلى سبيل مغازلتها اضطررت أن ألوي لساني على طريقة أهلها في
الحديث, أقلب الجيم ياءً وأمطط الكلمات. رغم أني صموتٌ مثل الصحراء, لا أجيد لهجة
الحاضرة البحرية الصاخبة الخالية من الحكمة... المدينة ثرثارة بطبيعتها, والحكمة
وليدة الصمت, والصمت لا يصير صمتاً إلا في الصحراء)
يتهم دخيل
بقتل صالحة وولدها ليسجن ثم يفاجئ عند خروجه من سجنه بسورٍ يبنى حول الإمارة,
ليزيد اغترابه اغتراباً. هذا الاغتراب الذي يجعل رأسه يهتز طرباً لمجرد سماع اسمه
الذي تخلى عنه عند قدومه إلى مغتربه الطوعي -الكويت-.
يصف
دخيل حبه لصالحة بقوله (أحببتها لأنها كثيراتٍ في واحدة.. صعبة سهلة, حرة فاتنة,
ذكية غبية, خجول ماجنة, كذابة صدوق, هي في الحقيقة ما كذبت قط, ولكنها مثل العجائز
إن أرادت قول الحقيقة مثّلتها بحكايةٍ تختلقها)
قصة حب
دخيل لصالحة, والتي لم تكتمل, حالها حال قصص العديد من العشاق الذين اعتصرت قلوبهم
ليهدوننا عصارة ألمهم ونزيف قلوبهم أدباً بديعاً خلّد هذا العشق كما خلّدهم.
من
الفقرات التي احببتها:
(يبدو
أن في هذه المزودة كل شيء) قلت له
ابتسم
قبل أن يجيب (هي بيتي)
بسببه,
فيما بعد, صرت احمل مزودة من القماش, أشيلها معي أينما حللت
الشمس
تطبخ رؤوسنا, ولا ماء في قربتي والعرق لا يروي ظمأً, ليس لي ولا للصغير إلا الصبر
على سياط الشمس, وحليب ضرعٍ زاحمنا به الحوار... ونبوءة بشرتني بها سحابة لا تعود...
أتكون الكويت سحابةً تبشّر بما لا يجيء؟ أم سراباً لا يضنيه نايٌ أبدي؟ أم نجمةً
ترشدنا إلى كل الدروب إلا درباً يؤدي إليها؟ يبدو اني اموت.
ادركها
ميتة على ظهر ناقتي.. وقت تدلف الحاضرة مع ابنها يلتقيان ساري... ويلتقي ولدي
من..؟
في
خيمة الزوجية أتذكر الوجع سكيناً تغوص في أحشائي.. ولزوجة عرقه على ظهري, وريح أنفاسه
الحارة وراء اذني... لا شيء سوى لحظاتٍ موجعة انتظر انتهاءها قبل ارتفاع شخير
صالح... لم ادرك يوماً ما تحكي عنه النساء من لذةٍ يرتعش لها الجسد, ولم أفلح في
تعلم دروس (حسنى) حول الفراش قبيل ليلتي الأولى
أتذكر
كيف اقترب ساري من وضحى الرابضة ذاك الشتاء.. يحرك ذيله وتظهر من تحته خصيتاه
الضخمتان, واحدة تكبر الأخرى, برك بثقله فوقها, يعض عنقها مثل صالح تماماً.. يعلو
ويهبط في حين لا قدرة للناقة على فعل شيءٍ عدا الرغاء بصوتٍ عالٍ, صوت اللذة التي
لا اعرفها أو الألم الذي كنت أكتم صوته وأنا اعض باطن ساعدي حتى استحالت آثار
اسناني مثل وشوم الإبل في يدي... هل كنت آثمة بإدخال دخيلٍ في خيالاتي؟ يلاطفني
ويحنو عليّ مثل ربابته خشية انقطاع وترها الوحيد... وحدها ام دحّام تدري بآثام
خيالي.. تلومني على عدم نقش كفي نكايةً بصالح وفاءً لدخيل, أحدق في عينيها أجيب
"ما نقشتها يوم عرسي", تفلت ضحكة تهكم من انفها "غداً ترزقين
بمولودٍ ينسيك", أكزّ على اسناني أجيبها "أذبحه"
تلومني
العجوز على تعلّقي بأمس دخيل من دون ان تسميه... تهز رأسها آسفةً, وهي تقول لي
"من يشيل الامس على ظهره تغوص قدماه في اليوم ولا يدرك الغد", لكن ما
جدوى غدٍ يخلو من دخيل؟
أحببت
في نهاية الرواية تعديل دخيل لعقاله على رأسه عند زيارته السنوية لقبر صالحة التي
دفنها في أرض الكويت حتى يحافظ على قبرٍ معلومٍ لها خلافاً لأبيه الذي توفي في
رحلة الحج دون أن يعرف له قبراً, رغم مرور 40 عاماُ على دفنه إياها وذلك لكونها
قالت له ذات مرة في ميعة الصبا (عقالك مايل) رداً طفولياً منها على سخريته يومها
عند محاولتها حلب خروفٍ بالخطأ بدل الشاة نتيجةً لجهلها.
في
الحقيقة, لم تشدني طوال عمري, حياة البدو, وكانت الساعة الروتينية لعرض المسلسل
البدوي على شاشة التلفزيون السوري الرسمي في ظهيرة الجمعة بمثابة تعذيبٍ نفسيٍ لي,
كونها كانت القناة الوحيدة المتاحة في تلك الأيام, لكن بعد قراءتي لهذه التحفة الأدبية
أشعر بذوبان نفوري تجاه البدو وحياتهم وتلاشى كلياً ليحل محله تعاطفاً وتفهماً
أعمق لطباعهم وطبيعة حياتهم القاسية.
رواية
ساحرة انصح بقراءتها والاستمتاع بتفاصيلها المبهرة ببساطتها وعمقها.
دمتم
قارئين
شيرين
الخس