قراءة في رواية (لعبة الملاك) – كارلوس زافون
الرواية من منشورات دار الجمل – ترجمة معاوية
عبد المجيد – 680 صفحة (3 أجزاء وخاتمة)
-(لعبة الملاك أم لعبة الشيطان؟؟؟) سؤال لا
ينفك يتردد صداه في ذهنك على طول الرواية
كل كتاب تعيش فيه روحٌ ما, روح من ألّفه,
وأرواح من قرؤوه وعاشوا وحلموا بفضله (هذه هي الثيمة التي يعتمد عليها كارلوس
زافون في رباعيته المدهشة "مقبرة الكتب المنسية"
رواية (لعبة الملاك) هي الجزء الثاني من هذه
السلسلة الرائعة, حيث كان الجزء الأول منها بعنوان (ظل الريح), ورغم أن الجزئين لا
يرتبطان ببعضهما من حيث الأحداث, إلا أن زافون أبى إلا أن يضيف لمسته المميزة
فأنهى الجزء الثاني حيث يبدأ الجزء الأول. فينتهي الجزء الثاني (لعبة الملاك)
بولادة دانييل سيمبيري الذي سيقوم في الجزء الأول من الرباعية المعنون (ظل الريح)
بفتح البوابة الخشبية العملاقة لمقبرة الكتب المنسية لتبدأ المغامرات السحرية.
في الحقيقة, لا شيء في (لعبة الملاك) يشبه
(ظل الريح) إلا الأسلوب المبهر للكاتب العبقري كارلوس زافون في تجميع خيوط
الحكايات المختلفة للشخصيات وتعقيدها لتتداخل فيما بينها قبل أن يبدأ في فك
ألغازها الواحد تلو الآخر بطريقة تحبس الأنفاس.
تدور أحداث الرواية في مدينة برشلونة قبل
عقدين من الحرب الأهلية وقد قام زافون بتضمينها بعض الإشارات ووصف للظروف التي أدت
إلى هذه الحرب. حيث تمجد هذه الرواية, كسابقتها, مدينة برشلونة رغم سوداوية
الأحداث.
وصف زافون المتقن والشاعري للأماكن والطقس
يجعلك تنغمس في الرواية بشكلٍ مذهل, فتجد نفسك تسير في الشوارع التي يصفها وتدخل
الأبنية مع أبطاله وتراها بوضوح في خيالك. تشعر بثقل رطوبة الجو تارةً و تتجمد
أوصالك من البرد تارةً أخرى.
(لعبة الملاك) من الروايات القلائل التي تسكنك
وتتغلغل في خلايا عقلك وتفرض نفسها على روحك وتؤرق منامك, فلا تستطيع التملص منها
حتى في أحلامك حيث ترافقك شخوصها وتحيط بك من كل جانب لتجد نفسك متورطاً معها في
ما تمر به من أحداث غريبة ومشاعر متضاربة. فتبكي تارةً من القهر, وتشعر بسعادةٍ
تارةً أخرى, بل وقد تتفاجأ من نفسك وأنت تصرخ بملء صوتك منبهاً أحد الشخصيات للخطر
المحدق به.
مردّ هذا إلى براعة الكاتب على الحبكة
المشوقة قوطية الطراز التي تنسجم تماماً مع زمان ومكان الأحداث.
ما يميز (لعبة الملاك) عن سابقتها (ظل الريح)
هو الكم الهائل من الأحداث المأساوية والرعب والجرائم الفظيعة والظلم الشديد, سيما
في أول 200 صفحة والتي كان ضحيتها بطل الرواية "دافيد مارتين" لدرجةٍ
تشعرك بالقهر وتبكيك بشدة وتتساءل مع توالي المصائب التي يُمنى بها هذا الطفل, كيف
أمكنه أن ينجو ويتابع حياته؟؟, لتكتشف مع استمرار الأحداث, أن ما عانه في طفولته
لا يعتبر شيئاً مقارنةً بما سيعانيه على امتداد باقي الرواية.
حيث يتلقى دافيد, في فترةٍ اعتقدها أحلك
فترات حياته التعيسة أصلاً, عرضاً مغرياً على الطريقة الفاوستية من ناشرٍ غامض,
حيث يجد نفسه عاجزاً عن رفض عرضٍ كهذا, ليكتشف ونكتشف معه أنه قد ورّط نفسه ومن
حوله في متاهةٍ من الرعب لا فكاك منها.
في (لعبة الملاك) لا يكتفي زافون بإمتاعنا
برواية بوليسية غامضة مثيرة, بل يمرر بذكاءٍ وحنكة وإبداع لا مثيل له الكثير من
الأفكار المثيرة للاهتمام ويهدم الكثير من التابوهات من خلال الحوارات الفلسفية
الوجودية العميقة بين دافيد وناشره المزعوم أندرياس كوريللي من جهة, وبين دافيد
وايزابيلا الجميلة من جهة ثانية, وبين دافيد وأمينة المكتبة ايلاليا من جهة ثالثة.
حيث تناقش هذه الشخصيات في حواراتها العميقة
العديد من المسائل التي تمس وضع المرأة في ذلك الزمن, وكذلك مسائل الإيمان
والعقائد وبذلك تثير في ذهن القرائ الكثير من التساؤلات العميقة.
كما أن في الرواية إشارة واضحة إلى طبيعة
الإنسان الشيطانية التي تسببت فيما بعد بالحرب الأهلية في اسبانيا. ويظهر هذا
جلياً في قول مارتين في خاتمة الرواية: (خلال أعوام طوافي, رأيت بأم العين ذلك الجحيم
الموعود الذي صورته في الصفحات المكتوبة لرب العمل, ينفث نيرانه على دربي. هربت من
ظلي نفسه ألف مرة. كنت أتمشى على الشاطئ أو أجلس قبالة الكوخ على الرصيف الخشبي
لأقرأ كومة من الجرائد القديمة التي وجدتها في إحدى الخزانات التي تفيض صفحاتها
بأخبار الحرب التي تحرق العالم مثلما حلمت من أجل ذلك الناشر)
كذلك تتركك الرواية مع سؤالٍ محيّر (هل
كوريللي هو الشيطان نفسه؟ وهو يقوم بالانتقام لنفسه من عدوه الأزلي, الإنسان؟)
إذ يختتم زافون الرواية بمشهد سريالي نشاهد
فيه لقاء كوريللي الأخير مع دافيد, حيث يأتيه مصطحباً كريستينا الصغيرة كما وجدت
في تلك الصورة الغامضة داخل ألبوم الصور الخاص بها والتي لم تجد لها تفسيراً
منطقياً حينها
ويقول كوريللي لدافيد في هذا المشهد: (قررت
أن أردّ إليك ما سلبته منك, أعزّ ما أحبه قلبك- قررت أن أضعك مكاني لمرةٍ واحدة,
لتشعر بما أشعر به. لن تشيخ أبداً وسترى كيف تكبر "كريستينا" بجانبك,
وستراها يوماً ما تموت بين ذراعيك. هذه نعمتي وانتقامي), فهل يشير هذا المقطع إلى
اللعنة الإلهية التي مُني بها الشيطان عند تمرده على الله, والعذاب الأبدي الذي
عاناه بعد خسارته للفردوس وطرده من الجنة؟ أم أن زافون يقصد أمراً آخر؟ ربما يجيب
الجزء الثالث من هذه الرباعية البديعة على هذا التساؤل وربما يطرح تساؤلات أكثر
إثارةً للحيرة.....
الرواية متخمة بالاقتباسات الرائعة, والتي
اخترت منها على سبيل المثال, ما يلي:
·
الحياة ترزق الناس العاديين أولاداً, فيما ننجب
نحن الأدباء كتباً
·
الكائن البشري يؤمن كي يتنفس, يؤمن كي يبقى
على قيد الحياة
·
دخلت إلى المكتبة واستنشقت عبير الكتب المكون
من السحر والأوراق, واستغربت كيف لم يخطر على بال أحدٍ حتى الآن أن يعبئه في زجاجة
عطر
·
أعتقد أنك
قاضٍ جائر بحق نفسك، وهذه خصوصية تميّز
النوابغ
·
لا أثق بمن
يدّعي كثرة الأصدقاء، إنها دلالة على
الجهل بالآخرين
·
ان اي عمل فني
عدائي بطبيعته، يا ايزابيلا. وما حياة الفنان سوى حرب، سواء أكانت صغيرة أم كبيرة، بدءاً من تلك التي يخوضها مع نفسه
ومحدودياته. إذا أردنا بلوغ أي هدف، علينا أن نتسلح بالطموح، ثم الموهبة،
فالمعرفة، والفرصة السانحة أخيراً.
·
ودعتني باحترام
واختفت في الممر. سمعت خطواتها
تبتعد، ثم صرير الباب يغلق. في غيابها،
لاحظت للمرة الأولى حجم الصمت الهائل الذي كان يخنق ذلك البيت.
·
الإيمان
إجابتنا الوحيدة على مسائل وجودية يصعب تفسيرها؛
الفراغ الأخلاقي الذي نلمسه في الكون،
حتمية الموت، ألغاز أصل الأشياء أو
مغزى وجودنا وغيابنا. إنها مسائل بدائية
وبسيطة للغاية، لكن حدودنا نفسها تمنعنا
من الإجابة عنها بوضوح، ولهذا السبب نسعى
إلى الإنجاب والتكاثر، كردّة فعل
دفاعية، كإجابة عاطفية. إنها محض بيولوجيا.
أي تأويل وتفسير للواقع هو مجرد تخييل. المشكلة،
والحال هذه، تكمن في أن الإنسان
حيوان أخلاقي، منفي في إحدى زوايا كونٍ لا
يعترف بالأخلاق، ومحكوم بحياةٍ فانية ولا
معنى لها سوى في تخليد الدورة الطبيعية للحفاظ على النوع، لذا من المستحيل البقاء في حالةٍ مستديمة من
الواقع، بالنسبة إلى الكائن البشري على
الأقل. نحن نقضي جزءاً كبيراً من حياتنا
في الحلم، لا سيما حين نكون مستيقظين. محض
بيولوجيا، كما أسلفت.
·
نحن ندّعي
بأننا نفهم الأغاني، لكن الموسيقى وحدها
ما يجعل من كلماتها مفهومة.
·
لا يعي المرء
حجم الجشع في قلبه حتى يسمع رنين الدنانير
في جيب
·
الاتفاق
القائم على كلمة الشرف غير قابل للفسخ،
لأنه يفسخ من أبرمه
·
نحن، قبل أن ندخل درب الحياة، نعلم مسبقاً ما الذي سنصافه خلالها. نحن لا نتعلم شيئاً مهماً في هذه الحياة، إنما نتذكر ليس إلا.
·
قد قالها
والدي، قبل أن يتوفاه الله: إذا سُمح
للنساء بتعلم القراءة والكتابة، فإن هذا
العالم سيخرج عن السيطرة.
·
هل تعلم أجمل
مافي القلوب المحطمة؟ أنها تتحطم بالفعل
مرة واحدة فقط، وكل ما يحل بها، بعدئذ،
مجرد خدوش
·
الإيمان أو
عدم الإيمان هو صنيعة الجبناء. نحن نعرف
أو لا نعرف. نقطة، انتهى
·
تعلمنا الأقصوصة
الخرافية أن الكائنات البشرية تتعلم وتتشرب الأفكار والمفاهيم بواسطة السرد
والحكاية، وليس بالدروس التربوية والخطب
النظرية.
·
لا شيء
عادل. قد نأمل أن يكون منطقياً، كحدٍ أقصى.
اما العدل، مرض نادر في عالم سليم
كسمكة، بالمحصلة
·
المهم انك
تعمل. لطالما قلت إن الخمول يضعف
الإلهام. ينبغي بالمرء أن يظل مشغول
العقل. وإن كان بلا عقل فعليه أن يشغل
يديه بشيء ما، على الأقل
·
انا اتكلم عن
امرأة حقيقية، واحدة من اللواتي يجعلنك
تصبح ما ينبغي عليك أن تكون حقاً
·
تركتها تغمرني
بذراعيها، وأسندت رأي على شعرها. كان عناقها بنكهة السلام ورحابة الصدر، يطفح نوراً
·
اذا أردت
إيهام أحدٍ ما، فما عليك سوى المناورة في
إثارة فضوله أولاً، وإشعال غروره ثانياً، واستنهاض شهامته أو إيقاظ ضميره أخيراً
رواية (لعبة
الملاك) هي مزيج سحري من الرعب والتشويق والألم والأمل والحب والفقد. أنصح بها
وبشدة
دمتم قارئين
شيرين الخس
لا أتفق البتة مع أي ما كتبته.
ReplyDelete