Thursday, 19 March 2020

قراءة مختصرة لرواية (الساعة الخامسة والعشرون)- للكاتب الروماني قسطنطين جيورجيو




قراءة في رواية (الساعة الخامسة والعشرون)  للكاتب الروماني قسطنطين جيورجيو وترجمة د. فائز كم نقش
عدد الصفحات 506





أنهيت أمس قراءة رواية (الساعة الخامسة والعشرون)  للكاتب الروماني قسطنطين جيورجيو وترجمة د. فائز كم نقش
وهي ملحمة أدبية كتبت عام 1949 ومنعت في أوروبا سنيناً طويلة. فيها كم فظيع من الظلم والقهر والألم
استمرت روحي بالنزف وعيوني بذرف الدموع على امتداد ساعاتي القليلة التي رافقتني فيها هذه الرواية،  فرغم كونها تعتبر طويلة نسبياً، إلا أنها شدتني ووجدت نفسي اقرؤها بلهفة وسرعة وشعرت أنني متورطة فيها أجري من صفحة لأخرى بحثاً عن بصيص أمل يضيئ حياة البطل ايوهان مورتيز الشاب الروماني الذي لعبت الصدف دورها الأكبر في كل ما جرى في حياته من مآسٍ لا يمكن لإنسان أن يتحملها، ورغم انتقاله من مأساةٍ إلى أخرى على امتداد الرواية إلا أنه بقي محافظاً على إنسانيته وطينته الخيّرة،  على نحو مثير للعجب والإعجاب على حدٍ سواء.
تناقش الرواية العديد من القضايا المصيرية،  إلى جانب سردها لاحداث الحرب العالمية الثانية،  كالدين والمصير والهوية والحرية والتطور التقني.
كما ان الرواية تعتبر صرخة استنكار ورفض في وجه الأيديولوجيات المتطرفة التي استعبدت الإنسان وشوهت إنسانيته و روضته ليصبح مواطناً في المجتمع الآلي، واعتبرته عدواً يهدد سلامة البشر وبذلك أباحت لنفسها الفتك به بكافة الطرق ودون أدنى شعور بالذنب. وربما يمكننا اعتبارها رواية الأحلام الإنسانية المهدورة.

الجدير بالذكر أن هذه الرواية التي حصل كاتبها على جائزة نوبل كانت ممنوعة في رومانيا في الحقبة الشيوعية ولم يسمع المواطنون الرومانيون عنها وعن كاتبها.


من أكثر الاقتباسات إثارةً للفزع،  هي مقولة تريان:
"لقد أشرفَ العالم على دخولِ ساعته الخامسة والعشرين، وهي التي لن تشرق الشّمس من بعدها على الحضارة البشريّة أبداً، والتي لن يحلّ بعدها يومٌ جديد، إنّها السّاعة التي سيتحوّل فيها البشر إلى أقليّة عديمة القدرة على التّفكير لا وظيفة لها غير إدارة جحافل الآلات وصيانتها وتنظيفها".

إن الساعة الخامسة والعشرون ماهي إلا تلك الساعة التي يتعذر فيها على الإنسان النجاة بحياته من هلاك مؤكد.  هي (اللحظة التي تكون فيها كل محاولة للإنقاذ عديمة الجدوى،  بل إن قيام المسيح نفسه لن يجدي فتيلاً.  إنها ليست الساعة الأخيرة،  بل هي ساعة ما بعد الساعة الأخيرة.  ساعة المجتمع الغربي.  إنها الساعة الراهنة.. الساعة الثابتة المضبوطة).
ولتوضيح ما يعنيه الكاتب بهذه الساعة فقد اورد القصة التالية:
كان الغواصون في الماضي،  عندما ينزلون إلى أعماق البحر،  يصطحبون معهم عدداً من الأرانب البيضاء، حتى إذا بدأت هذه الأرانب بالموت يدرك الغواصون بانه لم يبقَ لديهم من الأكسجين إلا ما يكفي لخمس ساعات، يبدؤون فيها رحلة النجاة إلى سطح الماء. والساعة الخامسة والعشرون هي تلك التي تحل بعد انقضاء الساعات الخمس التي تلي موت الأرانب البيضاء.

المتهم الأول في كل المآسي التي رافقت شخصيات الرواية، هو الإنسان، الذي تخلى عن إنسانيته، وانضم للمجتمع التقني، الذي يحوِّل الإنسان إلى آلة، منخرطا في لعبة قذرة يتناوب فيها على دوري الجلاد والضحية.

ما زاد من تأثير هذه الرواية الرائعة هو كونها عابرة للأزمنة والأماكن،  فهي تصلح لزماننا هذا كما لو أنها تتناول احداثه الراهنة على امتداد العالم أجمع. حيث أن الكثير من الناس يفقدون إنسانيتهم ولا يعدون اكثر من ارقامٍ تعامل حسب انتمائها وقد تنتقل من معسكرٍ إلى المعسكر المعادي دون إرادة أو نية،  بل وربما عن طريق الخطأ. كما ان الكثيرين من الأفراد يجدون أنفسهم ضمن جماعاتٍ تقاتل فريقاً ما،  دون أن يفهموا السبب أو الدافع.
تعتبر رواية (الساعة الخامسة والعشرون) نقداً عنيفاً موجهاً للحداثة والمجتمع المعاصر؛ و تتناول ألم الإنسان المقهور أو نهايته المؤلمة، وهي رواية ساحرة، محبوكة بتشويق ومهارة، لا ينفك الحب يلقي ظلاله على امتدادها ليذكرنا بإنسانية البشر وربما بإمكانية انتصار الإنسانية على المجتمع الآلي بمحافظته على عواطفه السامية.

 والجدير بالذكر أنه قد جرى تحويل هذه الرواية المميزة لفيلم من إنتاج فرنسي إيطالي يوغوسلافي مشترك سنة 1967، بطولة ممثل عبقري هو أنطوني كوين



بعض الاقتباسات التي أثرت بي:

- إن الإنسان يستطيع السيطرة على كل الحيوانات المفترسة. غير أن حيوانا جديدا ظهر على سطح الأرض في الآونة الأخيرة. وهذا الحيوان الجديد اسمه : المواطنون.
إنهم لا يعيشون في الغابات، ولا في الأدغال، بل في المكاتب. ومع ذلك فإنهم أشد قسوة وضراوة من الحيوانات المتوحشة في الأدغال. لقد ولدوا من اتحاد الرجل مع الآلات. إنهم نوع من أبناء السفاح، وهو أقوى الأصول والأجناس الموجودة على سطح الأرض.



- إن المجتمع الآلي يستطيع ابتداع رفاهيك، لكنه لا يستطيع خلق الفكر. وبدون الفكر لا توجد العبقرية. وإن مجتمعًا محرومًا من رجال عباقرة، مقضيٌّ عليه بالفناء. "


- ليس كل انسان مشابها في القوة او في الضعف لكل انسان اخر .
الآلات وحدها يمكن ان تكون متكافئة فيما بينها .هي وحدها يمكن ان تستبدل و ان تفكك اجزاؤها وتحول الى عناصرها الرئيسية او الى حركات أساسية .فاذا تشبه الانسان بها حتى يماثلها ،فلن يبقى حينها انسان واحد على سطح الأرض.



- إنه ليس الأسف للبقاء بل إنه الحنين إلى شيء نعتقد في صحته في خيالنا، شيء لن نمتلكه أبداً. وإذا بلغناه، فإننا سرعان ما نجد أنه لم يكن هو موضوع أحلامنا. لعل أمريكا لم تكن هدفي المنشود. لعلها كانت حجة اكتئابي. إن أمريكا ليست إلا اختراعاً لفقه حنيننا. وقد يكون عدم رؤيتها أقل خيبه لآمالنا مما لو شاهدناها حقيقة


- هناك بعض الميتات التي لا تخلّف وراءها جثثاً



وكما العادة أنصحكم بقراءة هذه الملحمة لتعيشوا تفاصيلها المشبعة بالمشاعر الإنسانية المختلفة وتحكموا عليها بأنفسكم.





دمتم قارئين
شيرين الخس

قراءتي في رواية (كافكا على الشاطئ) – الكاتب الياباني هاروكي موراكامي


قراءة في رواية (كافكا على الشاطئ) – الكاتب الياباني هاروكي موراكامي



الرواية من ترجمة إيمان رزق الله. منشورات المركز الثقافي العربي - الدار البيضاء المغرب. الطبعة الثانية ٢٠١٠



عدد الصفحات ٦٢١









لطالما سمعت عن هذه الرواية في عدة مواقع للقراءة، لكني كلما هممت بقراءتها كنت أجدني أؤجل قراءتها وأبدأ بكتابٍ آخر. وهكذا تأجلت قراءتها عدة سنواتٍ وها قد حان الوقت وقرأتها الآن. في الواقع، أعتقد أن هذا التأجيل كان خيراً، لأن قراءتها في هذا الوقت بالذات كان لها تأثيرٌ عميقٌ جداُ في تفسي ربما لم أكن مستعدةً في الماضي لخوض هذه التجربة العميقة.



في الحقيقة، لا أعتقد أن أحداً مهما كانت براعته يمكنه كتابة ريفيو على مستوى الرواية، لكني سأحاول أن أشارككم تجربتي المتواضعة معها لعلها تكون سبباً في حث بعضكم على قراءتها وخوض هذه التجربة الفريدة بحق.

(كافكا على الشاطئ) هي رواية لا شبيه لها. فهي رواية سريالية تطرح أسئلةً وجودية عميقة وتمزج الحقيقة بالخيال بطريقة سحرية تجعل من الصعب على القارئ أن يفرّق بين ما هو حقيقي وما هو خيالي.

هي رحلة مضنية هدفها البحث عن الذات تتم عبر سلسلة طويلة من التجارب العميقة التي تبدأ بتقبّل الآخرين على اختلاف مشاعرهم ومعتقداتهم ودوافعهم لتنتهي بتقبّل الذات كما حدث مع بعض الشخصيات، لكنها تنتهي بتغيير جذري للذات كما حدث مع شخصيات أخرى.



من شدة تأثير الرواية، أطوي الصفحة الأخيرة منها فأراني أطلق زفرةً حَرّة وأحدق في الفراغ لفترةٍ طويلة، وبعد أن أعود إلى رشدي أسأل نفسي (والآن ماذا؟ أي رواية قد تصلح للقراءة بعد "كافكا على الشاطئ؟"), سؤالٌ محيّرٌ حقاً. أهز رأسي بعنفٍ في محاولة لإخراج شخصياتها السحرية من عقلي وإفراغ ذهني وتجهيزه لشخصيات روائية جديدة تسكنه، دون جدوى. أعتقد أن هذه الشخصيات قد انضمت فعلياً إلى قائمة الشخصيات الروائية التي نقشت في ذاكرتي الهشة إلى الأبد.

وبمجرد خروجي من نوبة الذهول هذه، أجدني قد اتخذت قراراً حاسماً بضرورة قراءة كل الروايات التي تمت ترجمتها لهذا الروائي الفذّ هاروكي موراكامي. وعليه أقوم مباشرةً بتنزيل كل أعماله المترجمة على جهاز القراءة الخاص بي تمهيداً لإنهائها جميعاً في أقرب وقت.

وقد قرأت إلى الآن العديد منها، وتوصلت إلى قناعةٍ شخصية- ربما تتفقون معي عليها أو لا- وهي أن تاريخ القارئ قد يقسم إلى ما قبل وما بعد هاروكي موراكامي.



نُشرت هذه الرواية عام 2002 بلغتها الأم اليابانية، وتمت ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية عام 2005 ليتم إدراجها مباشرةً ضمن قائمة (أفضل 10 كتب للعام 2005) حسب صحيفة نيويورك تايمز.

تتكون الرواية من 49 فصلاً يعتبر كلٌّ منها قطعةً من الفسيفساء التي تشكّل في نهاية هذه التحفة الأدبية الصورة الكاملة التي أراد هاروكي موراكامي رسمها لنا عبر قلمه. كل فصلٍ يروي جزءاً من حكاية إحدى الشخصيات، ويتنقّل الكاتب من فصلٍ لآخر بسلاسة ورشاقة.

في بداية الرواية، قد يعتقد القارئ أن الكاتب يكتب قصصاً قصيرةً عن أحداث وأشخاص لا رابط يجمعهم، ليكتشف مع تقدم الأحداث أن جميع هذه الشخصيات تترابط وتتقاطع أقدارها بطريقةٍ ساحرةٍ عصية على الوصف لتتكشف له الألغاز في نهاية المطاف.  

في الرواية عدة شخصياتٍ أساسية كلها مؤثرة ومثيرة للتأمل، لكن الشخصيات المحورية هما شخصيتين: الشخصية الأولى هي كافكا الصبي ذو الخمسة عشر عاماً (ليس هذا اسمه الحقيقي لكنه الاسم المزيف الذي اختاره لنفسه), أما الشخصية الثانية فهي العجوز ناكاتا البسيط، الذي يعاني من حادثٍ في طفولته يحوله من شخصٍ طبيعيٍّ إلى شخصٍ غبي ينسى كل شيء بما في ذلك الكتابة والقراءة, ويجد نفسه غبياً يملك موهبة التفاهم مع القطط.



على الرغم من عدم وجود أي روابط ظاهرية بين هذين الشخصين- فيما عدا البلدة التي ينحدران منها- ورغم عدم اجتماعهما أبداً،  إلا أن أقدارهما تتشابك بطريقةٍ غريبة وتؤثر اختيارات وقرارات كل منهما في حياةٍ الآخر بشكلٍ مذهلٍ يجعله موراكامي يبدو طبيعياً ومنطقياً رغم سريالية الأحداث.

من الشخصيات الرئيسة أيضاً (هوشينو) الذي يسخره القدر دون نية مسبقة منه، لخدمة ومساعدة العجوز ناكاتا في مهمته القدرية. أثناء رحلتهما معاً يبدأ هوشينو باكتشاف ذاته وسبر أغوارها ليجد أنها تمر في رحلة تحوّل جذرية، فلا يعود الشخص الذي كانه في بداية الرحلة. ومن الجدير بالذكر أن الموسيقى تلعب دوراً مهماً في عملية التحوّل هذه.

هناك أيضاً (الآنسة ساييكي) التي مرت بتجربة مريرة في مراهقتها, فقدت على إثرها جزءاً من نفسها, بقي حبيساً للماضي لتقضي بقية عمرها بانتظار الموت.

كما أن هناك (أوشيما) الذي يعاني من القدرة على الاندماج كلياً في المجتمع بسبب هويته الجنسية غير التقليدية.

بالإضافة إلى عدة شخصيات ثانوية من حيث المساحة الممنوحة لها في القصة، رغم أن أدوارها مفصلية كجوني واكر ومعلمة ناكاتا و فتاة القطار. الذين كان لهم الأثر الكبير في تحريك الاحداث ودفع عجلة الرواية للأمام بطريقة مذهلة.

جميع هذه الشخصيات تخوض رحلتها الخاصة نحو التعرف على الذات، منها من يتقبل حقيقته ومنها من يتغير ويتطور.

الموضوعات التي تتناولها الرواية بفلسفة تتسم بالعمق والبساطة في آنٍ واحد، وفي اطارٍ عبثي غرائبي, هي الموت, الحب, الفراق والذكريات. فيرينا موراكامي عبر سرده المدهش والحوارات العميقة كيف تتداخل هذه الموضوعات لتشكل الشخصيات وتنحتها بفرادة مذهلة. حيث نرى كيف يختلف تأثيرها على كل شخصية حسب تجاربها وخبراتها ورؤيتها المختلفة للحياة.  

الجدير بالذكر هو الثقافة الموسيقية العميقة لموراكامي والتي تظهر جلية في هذه الرواية وباقي أعماله التي قرأتها حتى اللحظة. ويمكن اعتبار الموسيقى أحد العناصر الرئيسة في (كافكا على الشاطئ) كما في باقي أعمال موراكامي. إذ تلعب دوراً كبيراً في التأثير على بعض الشخصيات, كما تمنحنا فهماً أعمق لشخصياتٍ أخرى.
حيث يجعلنا موراكامي- بوصفه الدقيق الشغوف للمقطوعات الموسيقية الكلاسيكية وميكانيكية عزفها- نسرع إلى اليوتيوب ونبحث عن هذه المقطوعات التي ربما نكون قد سمعناها كثيراً, فنسمعها من جديد وكأننا نسمعها للمرة الأولى فنكتشف فيها سحراً لم نشهده من قبل, ونشعر أننا نستمع إليها برفقة شخصياته ونتذوقها وفق منظورهم لها.

ما يميز موراكامي هو ملامسته لأعمق الأعماق في الذات البشرية ووصفه البارع للمشاعر الدفينة التي لا نجرؤ عادةً على مجرد التفكير فيها.

وإن أردت استخلاص الرسالة التي أراد موراكامي توصيلها عبر روايته (كافكا على الشاطئ) لقلت هي تقبل الذات ومسامحتها عبر تقبل الآخر كما هو وتفهّم واحترام دوافعه ومشاعره ومبادئه.


أترككم مع بعض الاقتباسات التي أعجبتني: (علماً أنها كثيرة, لكني سأكتفي ببعضها فقط)


- للحظةٍ أتجمد في مكاني, لكن علي أن اعود مهما حدث. أشعر بغصةٍ ساخنة في صدري. وقوة مغناطيسية تشدني إلى البلدة خلفي. قدماي تتجمدان في مكانهما، أتسمر أفقد كل إحساسي بالزمن. إنني عالق بين فراغين. لم أعد أميز الخطأ من الصواب. لم أعد أعرف ما الذي أريده حتى. أقف وحيداً وسط عاصفة رملية رهيبة. لا أقدر على الحراك، ولا على رؤية أطراف أصابعي. لا أستطيع الحراك. رمال بيضاء كالعظام المسحوقة تلفني في قبضتها. لكنني أسمع صوت الآنسة ساييكي تقول بحسم "عليك أن تعود". ينفك السحر وأعود إلى ذاتي. يتدفق الدم الدافئ في جسدي من جديد، فأتابع طريقي. هذا هو المهم وهذا ما علي فعله.  






-كل منا يفقد شيئاً عزيزاً عليه، فرصاً، إمكانيات، مشاعر لا يمكننا استعادتها أبداً. كل هذا جزء من معنى كوننا نعيش. ولكن في داخل رؤوسنا - أو هذا ما أتصوره أنا- نخزّن الذكريات في غرفة صغيرة هناك. غرفة كالرفوف في المكتبة. ولنعي الأعمال التي كتبتها قلوبنا، علينا أن نصنفها وننظمها ببطاقات، ونزيل عنها الغبار من حينٍ لآخر. ونجدد لها الهواء ونغير الماء في أواني الزهور. بكلمات أخرى، ستعيش إلى الأبد في مكتبتك الخاصة بك


-الزمن كحلم قديم غامض، وتستمر أنت في التحرك محاولًا اختراقه، ولكن حتى لو ذهبت إلى آخر الأرض فلن تتمكن من الفرار منه، عليك أن تذهب الى هناك إلى حافة العالم.

-مع كل فجر جديد لا يكون العالم هو نفسه، ولا تكون أنت الشخص نفسه. محاصرون نحن داخل تفاصيل حياتنا اليومية، حتى لتبدو أحداث الماضي نجوماً قديمة خبا ضوؤها، فلم تعد تشغل محلًا في أذهاننا، ثمة الكثير لنفكر فيه كل يوم، والكثير لنتعلمه.


-خاطر غريب يجعل كل ما أراه أمامي يتخذ مظهرًاَ غير حقيقي، وكأنَّ ريحًا ستهبُّ وتذروه. القدر أحيانًا كعاصفة رملية صغيرة لا تنفكُّ تغير اتجاهاتها.


-السماء نفسها تبدو منذرة بالشؤم في لحظة ومبتسمة بترحاب في لحظة أخرى، يعتمد الأمر على الزاوية التي تنظر منها.


ملاحظة: قمت بكتابة وإعادة كتابة هذه القراءة مراتٍ عديدة، وما زلت غير راضية عنها, فقراءة رواية كهذه تجعلك حقاً تشعر بالعجز عن التعبير عن الأفكار التي تعصف برأسك بسببها. لكنني أستطيع الجزم بأنه سيفوتكم الكثير إن لم تقوموا بقراءة هذه التحفة الأدبية العظيمة.









دمتم قارئين

شيرين الخس
















Thursday, 26 December 2019

قراءتي في رواية (ناقة صالحة)- للكاتب الكويتي سعود السنعوسي


قراءة في رواية (ناقة صالحة) للكاتب الكويتي سعود السنعوسي
الرواية من منشورات الدار العربية للعلوم – الطبعة الأولى آب 2019 – عدد صفحاتها 173
لوحة الغلاف للفنانة مشاعل الفيصل



الرواية هي خامس رواية للكاتب الشاب وهي على التوالي (سجين المرايا – 2010) – (ساق البامبو-2012) – (فئران أمي حصة- 2015) – (حمام الدار – 2017) – (ناقة صالحة- 2019), وقد كتب أيضاً عملين مسرحيين هما (مذكرات بحار – 2019 مسرحية غنائية) – (نيو جبلة – 2020) والتي قدمت مؤخراً على مسرح مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي

ها أنا أقع مجدداً في فخ هذا الكاتب العبقري الذي برع دائماً في لعبة المسافة بين الحقيقة والخيال بطريقة تفرد بها وحده, حيث أدرج ملحقاً تاريخياً (وهمياً كما قيل) ليضيف بعداً واقعياً لروايته مستغلاً فقر معرفة القراء  بالشاعر دخيل بن أسمر, فأجدني, كما غالبية القراء حسب ما أظن, أبحث عن شخوص الرواية في فضاء الانترنت محاولةً إيجاد إجابةٍ شافية لسؤال طرحته المقدمة الغنائية لمسلسلٍ اشتهر في طفولتي باسم (كان يا ما كان) حيث تقول كلمات المقدمة "هل حدثت هذي الأسطورة حقاً في تلك الأيام؟ والشخصيات المكتوبة هل عاشت أم كانت أوهام؟"
لكنني لم أجد ضالتي, فأعود خالية الوفاض مكتفيةً بجمال هذه التحفة الأدبية الجديدة لهذا العبقري والاثر العميق الذي تركته في نفسي.
تدور احداث هذه الرواية جغرافياً في فضاء الصحراء بين إمارة الكويت وحاثل, وزمنياً في بدايات القرن العشرين, قبل أن تولد دولة الكويت الحديثة وتحديداً في فترة معركة الصريف التي خاضها آل الصباح وآل سعود وحلفائهم من قبائل التخوم ضد آل الرشيد.  
تلعب اللغة في هذه الرواية دور البطولة جنباً إلى جنب مع أبطالها وحيواناتهم التي تتداخل مصائرها مع مصائر الابطال وتتماهى في شخوصهم.
فلا يغيب عن ذهني, على امتداد الأحداث, بيت الشعر الشهير للمنخل اليشكري (أحبها وتحبني, ويحب ناقتها بعيري)
لم يتخلى الكاتب عن لغته الفصحى التي ضمنها العديد من المصطلحات البدوية التي كانت مناسبةً جداً لزمان ومكان الرواية, حيث جاءت اللغة وكأنها مفصلة لهذه الحقبة الزمنية وطبيعة الصحراء وحياة البدو البسيطة القاسية في تلك الديار التي اسماها الكاتب (ديار صالحة).
أما عن طريقة السرد فقد كانت سلسةً رشيقة, رغم اختلاف الرواة الذين اختارهم الكاتب ليخلّد على ألسنتهم قصة العشق التي لم يقدّر لها ان تكتمل.
الرواية مبنية على أغنية منسوبة للشاعر دخيل بن أسمر – الشاعر الذي ولد في الكويت عام 1880 ومات فيها عام 1987 ولم يحمل جنسيتها) والذي اشتهر بقصيدة (الخلوج) والتي نقلها ودوّنها طلال بن عبد الرحمن الذي كان أجيراً عند الشاعر في أربعينيات القرن الماضي – يقال أن القصيدة في الواقع للشاعر محمد بن عبد الله العوني-  التي افتتح الكاتب روايته بأبيات منها:
غيمتك شحّت .... ومالح كل موج
أعطش, ويا كويت بيرك مالحة
ومنزلك قلبي, وأنا لولا الخلوج
ما أترك دياري, لديرة صالحة
تتداخل موضوعات الرواية, لتظهر ثيمة العشق الذي لا يكتمل على السطح, بينما تتضمن الرواية في العمق موضوعاتٍ منها أعراف الصحراء القاسية, والاغتراب الحقيقي والنفسي, حيث تعبر عن هذا الإغتراب الأبيات التي استهل بها الكاتب أول فصول روايته للشاعر دخيل الخليفة المولود عام 1964, والذي تشابه اسمه مع اسم بطل الرواية من قصيدته (صهيلٌ مؤجل):
لا نجمة في الليل تنعشني
بضحكتها
ولا عنوان من أفلوا
يضيء دروب من ظلوا
ولا رحب السبيل
أبكي
وعشقكِ/ قبر اجدادي
وطعم الذكريات يضج بي
(يا عاشق الرمل الذي لم يحتمل قدميك
لحظة خطوها
صبرٌ جميل)

يروي السنعوسي روايته على لسان عدة شخصياتٍ مستخدماً ضمير المتكلم لتكتمل في ذهن القارئ الحكاية بجمع خطوطها المتداخلة.
الرواية هي عن الشاب الشاعر دخيل بن أسمر الذي عشق ابنة عمته صالحة آل مهروس – بنت أبيها- ناقشة الحناء, والتي يتم تزويجها غصباً لابن عمها ف (الخال خلي والعم ولي) كما هو العرف في الصحراء... تتماهى حياة صالحة بحياة ناقتها الأثيرة (وضحى), وتتقاسم الاثنتان نفس المصير المشؤوم من يتمٍ وعشقٍ وثكلٍ وموت.
دخيل الذي يجد نفسه مضطراً للرحيل عن دياره الأثيرة, نتيجة مؤامرة دنيئة من فالح آل مهروس ابن عم صالحة الذي أحبها والتي تزوجت أخاه صالحاً الذي طالما كان غريمه في حب أبيه, إلى إمارة الكويت العدوة فيقول واصفاً اغترابه (لفظتني الصحراء إلى مدينةٍ ترفضني.. وعلى سبيل مغازلتها اضطررت أن ألوي لساني على طريقة أهلها في الحديث, أقلب الجيم ياءً وأمطط الكلمات. رغم أني صموتٌ مثل الصحراء, لا أجيد لهجة الحاضرة البحرية الصاخبة الخالية من الحكمة... المدينة ثرثارة بطبيعتها, والحكمة وليدة الصمت, والصمت لا يصير صمتاً إلا في الصحراء)
يتهم دخيل بقتل صالحة وولدها ليسجن ثم يفاجئ عند خروجه من سجنه بسورٍ يبنى حول الإمارة, ليزيد اغترابه اغتراباً. هذا الاغتراب الذي يجعل رأسه يهتز طرباً لمجرد سماع اسمه الذي تخلى عنه عند قدومه إلى مغتربه الطوعي -الكويت-.

يصف دخيل حبه لصالحة بقوله (أحببتها لأنها كثيراتٍ في واحدة.. صعبة سهلة, حرة فاتنة, ذكية غبية, خجول ماجنة, كذابة صدوق, هي في الحقيقة ما كذبت قط, ولكنها مثل العجائز إن أرادت قول الحقيقة مثّلتها بحكايةٍ تختلقها)
قصة حب دخيل لصالحة, والتي لم تكتمل, حالها حال قصص العديد من العشاق الذين اعتصرت قلوبهم ليهدوننا عصارة ألمهم ونزيف قلوبهم أدباً بديعاً خلّد هذا العشق كما خلّدهم.
من الفقرات التي احببتها:
(يبدو أن في هذه المزودة كل شيء) قلت له
ابتسم قبل أن يجيب (هي بيتي)
بسببه, فيما بعد, صرت احمل مزودة من القماش, أشيلها معي أينما حللت

الشمس تطبخ رؤوسنا, ولا ماء في قربتي والعرق لا يروي ظمأً, ليس لي ولا للصغير إلا الصبر على سياط الشمس, وحليب ضرعٍ زاحمنا به الحوار... ونبوءة بشرتني بها سحابة لا تعود... أتكون الكويت سحابةً تبشّر بما لا يجيء؟ أم سراباً لا يضنيه نايٌ أبدي؟ أم نجمةً ترشدنا إلى كل الدروب إلا درباً يؤدي إليها؟ يبدو اني اموت.
ادركها ميتة على ظهر ناقتي.. وقت تدلف الحاضرة مع ابنها يلتقيان ساري... ويلتقي ولدي من..؟  

في خيمة الزوجية أتذكر الوجع سكيناً تغوص في أحشائي.. ولزوجة عرقه على ظهري, وريح أنفاسه الحارة وراء اذني... لا شيء سوى لحظاتٍ موجعة انتظر انتهاءها قبل ارتفاع شخير صالح... لم ادرك يوماً ما تحكي عنه النساء من لذةٍ يرتعش لها الجسد, ولم أفلح في تعلم دروس (حسنى) حول الفراش قبيل ليلتي الأولى
أتذكر كيف اقترب ساري من وضحى الرابضة ذاك الشتاء.. يحرك ذيله وتظهر من تحته خصيتاه الضخمتان, واحدة تكبر الأخرى, برك بثقله فوقها, يعض عنقها مثل صالح تماماً.. يعلو ويهبط في حين لا قدرة للناقة على فعل شيءٍ عدا الرغاء بصوتٍ عالٍ, صوت اللذة التي لا اعرفها أو الألم الذي كنت أكتم صوته وأنا اعض باطن ساعدي حتى استحالت آثار اسناني مثل وشوم الإبل في يدي... هل كنت آثمة بإدخال دخيلٍ في خيالاتي؟ يلاطفني ويحنو عليّ مثل ربابته خشية انقطاع وترها الوحيد... وحدها ام دحّام تدري بآثام خيالي.. تلومني على عدم نقش كفي نكايةً بصالح وفاءً لدخيل, أحدق في عينيها أجيب "ما نقشتها يوم عرسي", تفلت ضحكة تهكم من انفها "غداً ترزقين بمولودٍ ينسيك", أكزّ على اسناني أجيبها "أذبحه"
تلومني العجوز على تعلّقي بأمس دخيل من دون ان تسميه... تهز رأسها آسفةً, وهي تقول لي "من يشيل الامس على ظهره تغوص قدماه في اليوم ولا يدرك الغد", لكن ما جدوى غدٍ يخلو من دخيل؟

أحببت في نهاية الرواية تعديل دخيل لعقاله على رأسه عند زيارته السنوية لقبر صالحة التي دفنها في أرض الكويت حتى يحافظ على قبرٍ معلومٍ لها خلافاً لأبيه الذي توفي في رحلة الحج دون أن يعرف له قبراً, رغم مرور 40 عاماُ على دفنه إياها وذلك لكونها قالت له ذات مرة في ميعة الصبا (عقالك مايل) رداً طفولياً منها على سخريته يومها عند محاولتها حلب خروفٍ بالخطأ بدل الشاة نتيجةً لجهلها.
في الحقيقة, لم تشدني طوال عمري, حياة البدو, وكانت الساعة الروتينية لعرض المسلسل البدوي على شاشة التلفزيون السوري الرسمي في ظهيرة الجمعة بمثابة تعذيبٍ نفسيٍ لي, كونها كانت القناة الوحيدة المتاحة في تلك الأيام, لكن بعد قراءتي لهذه التحفة الأدبية أشعر بذوبان نفوري تجاه البدو وحياتهم وتلاشى كلياً ليحل محله تعاطفاً وتفهماً أعمق لطباعهم وطبيعة حياتهم القاسية.

رواية ساحرة انصح بقراءتها والاستمتاع بتفاصيلها المبهرة ببساطتها وعمقها.

دمتم قارئين
شيرين الخس







Thursday, 19 December 2019

قراءة في رواية (صورة دوريان چراي) للكاتب المسرحي الايرلندي اوسكار وايلد

قراءة في رواية (صورة دوريان چراي)
 للكاتب المسرحي الايرلندي اوسكار وايلد  

عدد الصفحات 256 صفحة (رواية فلسفية قوطية وبرأيي المتواضع يمكن تصنيفها تحت مسمى رواية رعب نفسية)
ترجمة لويس عوض


حين يكون السطح جميلا" بينما العمق قبيحا" مرعبا"




نشرت الرواية للمرة الأولى عام 1890 في مجلة ليبينكوت الشهيرة والتي والتي حذفت أكثر من 500 كلمة منها بدون إذن الكاتب خوفا" من تكون القصة غير لائقة بنظر القراء، ورغم هذا ظهر من يطالب بملاحقة وايلد قضائيا" لانتهاكه الأخلاق العامة
فقام وايلد بتنقيح الطبعة التي أصدرتها المجلة وأصدرها في كتاب عام 1891 مع مقدمة دافع فيها عن الرواية والقارئ


تظهر فلسفة وايلد في عمق الحوارات في الرواية كما في موضوعها، بطبيعة الحال. و قد قام وايلد في هذه الرواية بكشف عيوب المجتمع الإنجليزي في تلك الحقبة، ولم يخفِ إعجابه بالثقافة الأمريكية
تتمحور الرواية حول شخصية الشاب دوريان چراي الذي كُتب عليه الشقاء مهما اعتقد من حوله عكس هذا، حيث تأثر نتيجة سذاجته بشكلٍ كبير بأصدقاء السوء ليصبح ما أصبح عليه في النهاية، حيث فُتن بمتع الدنيا الحسية وغرق في الفساد الأخلاقي إلى أن انهار كلياً في نهاية الرواية
الرواية هي رحلة تحول الشاب چراي البريء الساذج فائق الجمال إلى وحش، والصراع بين الخير والشر في نفسه. خاصةً في ظل وجود ذلك الصوت الداخلي المغري الذي يؤكد له على الدوام أنه مهما فعل من شرور، فإنه سيحتفظ بنفس المظهر البريء الجميل الجذاب.
فيجد چراي نفسه على امتداد الرواية أمام تقاطع طرق؛ طريق الخير وطريق الشر. ولكن هل الشر فعلاً شيءٌ سيء طالما أنه سيبقى محتفظاً بذات المظهر الشاب البريء الجذاب؟
إذ أنه يعرف مسبقاً أن لا شيء من الشرور التي يرتكبها سينعكس على صورة وجهه البريء لأن لوحته المرسومة ستحمل وحدها وزر جميع الشرور والآثام بدلاً عنه (يا له من إغراء لا يقاوم!)
يتمتع الشاب دوريان چراي بجمال لا يقاوم ومكانة اجتماعية مرموقة لكنه في الوقت ذاته شخص مغرور وساذج. عندما يرى لوحته التي صوره فيها صديقه الرسام بازيل هالوورد، يعجب بنفسه بشكلٍ كبير ويتمنى لو كان بإمكانه البقاء شاباً وسيماً كما في اللوحة، ولسوء حظه، تتحقق هذه الأمنية . فيزداد غرور چراي بوسامته وشبابه الدائمين وينحدر تدريجياً في مستنقع الكذب والقتل والحقارة، وفي كل مرة يرتكب فيها هذا الشاب شراً أو إثماً تتشوه صورته قليلاً وتظهر عليها علامات التقدم في السن بينما يبقى هو مفعماً بالشباب والوسامة. حيث تتحول صورته تدريجياً إلى انعكاس صارخ على ما وصل إليه من فساد وشر يخفيهما ببراعة خلف براءة وجمال وشباب مظهره الخارجي.
تطرح الرواية ببراعة تأثير صديق السوء الذي يمثله اللورد هنري ووتون الذي يسمع بكمال الشاب دوريان چراي الذي يتمتع ببراءة الروح والصلاح الشديد بالإضافة إلى الوسامة التي لا تقاوم، فيسعى إلى اللقاء به ومصاحبته وينجح فعلاً في تغيير نظرة الشاب البريئة عن العالم. وهكذا يتبنى چراي تدريجياً وجهة نظر اللورد هنري عن العالم الذي يراه سلسلة لا نهائية من المتع الحسية التي لا مجال فيها للتساؤل عما هو صالح أو شرير. وهكذا يدخل چراي عالم هنري ويتعرف إلى مجموعة من الأشخاص الذين يساهمون في انحداره على سلم القيم وبالتالي يسهمون في الآثار السيئة التي تبدأ في الظهور على صورته مع كل درجة ينحدر فيها نحو القاع.
كما يطرح وايلد في المقابل دور الصديق الجيد الصالح الذي يمثله الرسام بازيل. وهو الذي يحاول مراراً وتكراراً ابعاد چراي عن عالم اللورد هنري، دون جدوى. وحين يقوم بازيل بمواجهة چراي فيما بعد، وتحديداً، في ذكرى ميلاده بالشائعات السيئة التي تنتشر عنه، فيقوم چراي بعرض ما حل بصورته من تشوهات نتيجة تصرفاته المشينة على بازيل الذي يرجوه بعمق أن يتوب، فهل يقبل الشاب دعوة صديقه الطيب ويثوب إلى رشده أخيراً أو أنه يبقى مصراً على متابعة الطريق الفاسد الذي بدأه، هذا ما ستعرفونه عند قراءتكم للرواية. التي تصف رحلة تحول مرعبة مليئة بالأحداث التي تقطع الأنفاس، وأنصح الجميع بقراءتها.

دمتم قارئين
شيرين الخس

Friday, 7 June 2019

قراءتي في رواية (العمى)- للكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو


رواية (العمى)- للكاتب البرتغالي الحائز على جائزة نوبل للآداب جوزيه ساراماغو
ترجمة محمد حبيب -صدرت الرواية مترجمة للناشر دار المدى عام 1998
كذلك توجد ترجمة أخرى لعلي عبد الأمير صالح نشرتها دار الجمل
الرواية صدرت بلغتها الأصلية عام 1995 - عدد الصفحات 279 صفحة





رغم سمتها الفنتازية,  تبقى هذه الرواية بسوداويتها قريبة جداً من سياق الأزمات الأخلاقية المتفاقمة التي لا زالت منذ الأزل تحيط بنا والتي زادت في عصرنا الحالي لأسباب عديدة
ورغم لا معقولية هذه الرواية لكن القارئ لن يشعر بالاغتراب وهو يعايش تفاصيلها, فهي تمس حياتنا جميعاً بشكلٍ أو بآخر 
فالحدث الغريب الذي يختلقه الكاتب في بداية الرواية ألا وهو العمى يفرض نفسه بقوة فيعرّي البشر من أوراق الغابة التي يتسترون بها عبثاً لتظهر حقيقتهم البشعة ويتحوّل المجتمع المتحضّر إلى غابةٍ متوحشة يعربد فيها شيطان الأنا وتسود القوانين الحيوانية (مع  تحفظي على هذا التشبيه, حيث أصبح, برأيي, عالم الحيوان في أيامنا هذه أنقى وأطهر من عالمنا الإنساني
الرواية هي تصوّر لما سيؤول إليه العالم حين يغيب البصر من عيون الناس والحكمة من عقولهموتملأ العتمة قلوبهم وأرواحهم فتموت الضمائر ويتحكم الشيطان في تصرفاتهم, حيث تسلط الرواية الضوء على حقيقة مفزعة ألا وهي هشاشة الأخلاق البشرية أمام العوز البشري, وهذا ما بتنا نراه متجلياً في المناطق شديدة الفقر والجهل في العالم حيث يسود مبدأ البقاء للأقوى
هي, باختصار, تعرية لواقعنا الذي يتوارى فيه الجميع خلف أقنعة يلبسها الأفراد ي مجتمعٍ يدّعي الفضيلة ويسوده الرياء, حيث يقوم أبطال الرواية بخلع أقنعتهم في ظل عدم الحاجة لها بعدما بات الجميع عمياناً وظهرت الصراعات على الطعام والدواء, ليغدو المجتمع أشبه ما يكون بغابةٍ يتحول فيها الإنسان المتحضّر إلى وحشٍ ضارٍ بل وربم أشد فتكاً وقسوة من هذه الوحوش
لعلها صرخةً مدوية أراد سارراماغو من خلالها إيقاظ البشرية من سباتها والتأكيد على أهمية الأخلاق والقيم السامية كوسيلة وحيدة للنجاة من شرور المجتمع المتوارية خلف الأقنعة , لكن ساراماغو يبقي الأمل منعشاً من خلال زوجة الطبيب (لشخص الوحيد الذي لا تصيبه العدوى) فهي التي تولت مهمة إرشاد المجموعة ودافعت عن الإسانية وتصدت للعصابة على طول الرواية

ولجعل هذه الرواية شمولية أو عالمية, تصلح لكل زمانٍ ومكان, نجد أن ساراماغو لم يشر إلى اسم المدينة أو البلد, وحتى أنه ترك الشخصيات بلا أأسماء واكتفى بأن أطلق عليهم صفات تميزهم فهناك الطبيب, زوجة الطبيب, الأعمى الأول وزوجته, لص السيارة, الفتاة ذات النظارة السوداء, العجوز ذو عصابة العين السوداء, الطفل الأحول, كلب الدموع وغيرهم
هذا ما أعطى الرواية بعدها العالمي فهي تنتقد الطبيعة البشرية وتناقش تناقضاتها النفسية والاجتماعية والأخاقية في غياب الوعي (البصر) بغض النظر عن الانتماء العرقي أو الديني أو غيره
 جدير بالذكر أن الكاتب لم يلتزم بأسس الحوار المتعارف عليها, فقد اختلط في الرواية الحوار المسموع بالمونولوج الداخلي من خلال سرد مسترسل يتخلله أحياناً وصف دقيق وبعض الصور الوصفية البسيطة أحياناً أخرى, وقد اختار ساراماغو راويين اثنين, أولهما راوٍ مجهول شاهد على الأحداث والثاني هو الشخص المعايش للأحداث (زوجة الطبيب) كونها الشخص المبصر الوحيد, ماقد يسبب 
الإرباك للقارئ خاصةً مع عدم وضع الأقواس المزدوجة للجمل الحوارية وهو الأسلوب الذي تفرد به ساراماغو

تبدأ القصة الغريبة بحدثً مفاجئ حيث تتوقف سيارة في الطريق العام ليكتشف صاحبها أنه بوغت بالعمى فبات فجأةً لا يرى سوى اللون الأبيض, فيتطوع أحد المارة لإيصال الرجل إلى بيته لتكتشف زوجته حين أرادت اصطحابه إلى الطبيب أن هدف المتطوع الحقيقي كان سرقة السيارة, وبعدها يبدأ انتشار الوباء وتبدأ الأحداث بالتسارع ويأخذ المجتمع بالانهيار لينتهي الوباء في نهاية الرواية فجأة وبطريقة غامضة كما بدأ, ولكن لا يعود بعدها شيئ كما كان قبله
جدير بالكر أن الرواية لها جزء ثلنٍ بعنوان (البصيرة) صدر عام 2004
كما أن هذه الرواية (العمى)  قد تم تحويلها إلى فيلم عام 2008 من إخراج فرناندو ميريليس وبطولة مارك رافالو وجوليان مور, ما تم اقتباس عدة مسرحيات منها. وكذلك تم بموافقة ساراماغو اقتباس عرض أوبرا يحمل نفس الاسم من تألف الموسيقي الألماني (Anno Schreier) عام 2011 

ذكرني موضوع هذه الرواية, برواية رائعة  قرأتها منذ سنواتٍ طوال بعنوان (بلد العميان) للكاتب هربرت جورج ويلز, حيث أن الفكرة في الروايتين واحدة وهي وجود شخص مبصر وحيد في بلدٍ كل من فيها أعمى, طبعاً مع الاختلاف الجذري بين الروايتين من حيث الأحداث والرسالة المراد توصيلها 

أترككم مع بعض الجمل المميزة العميقة في الرواية : 

– الطبيب: إن استعدت نظري ثانيةً، فسوف أُدقق النظر في أعين الآخرين، وكأنني أنظر في ارواحهم ... في أرواحهم أم عقولهم ؟

– الكهل ذو العين المعصوبة: لاتهم التسميات حتى لوكانت مثيرة للدهشة، إذا ماأخذنا في الحسبان اننا نتعامل مع ناس غير مثقفين 

– الفتاة ذات النظارة السوداء: إن في داخلنا شيئاً ما لا اسم له،وذلك الشيء هو مانحن عليه. 

في نهاية الرواية تقول زوجة الطبيب لاأعتقد اننا عمينا بل أعتقد اننا عميان يرون، بشر عميان يستطيعون ان يروا، لكنهم ( لايرون )


وكما دائماً, فلن أحرق عليكم أحداث الرواية بل أنصحكم بقراءتها  بأنفسكم, فلابد من أن ترون فيها بعداً جديداً خاصاً بكم

دمتم قارئين
شيرين الخس

Monday, 20 May 2019

قراءتي في رواية (حمام الدار) للكاتب الكويتي سعود السنعوسي




قراءتي في رواية (حمام الدار- أحجية ابن أزرق) للكاتب الكويتي سعود السنعوسي


الرواية من منشورات ضفاف - الدارالعربية للعلوم - الطبعة الثانية 2017 - (182 صفحة)

 أربعة أعمال روائية هي حصيلة الكاتب الكويتي العبقري الشاب سعود السنعوسي, لا تتشابه هذه الروايات إلا في عبقرية السرد  التي تذهل القارئ وعمق الموضوعات الإنسانية التي تتناولها
من الصفحة الأولى تتملكك الدهشة وتجد نفسك داخل دوامة تدوخك حتى تشعرر أنك لست قادراً على فهم شيء, فهي أحجية بحق
تدوخك الأحداث لدرجة أنك قد تعيد قراءة مقاطع كاملة لعلك تفهم حقيقة ما يجري, لكن هيهات أن يتأتى لك هذا بسهولة, فكونها أحجية فهذا يعني أنك لن تتمكن من فهم الصورة الكاملة إلا بإتمام ترتيب قطعها جميعها, وهكذا تجد نفسك مع كل صفحة جديدة تقرؤها أكثر قدرةً على فهم الشخصيات والأحداث إلى أن تصل إلى آخر صفحة حيث تجد نفسك تهمس (اها الآن اتضح كل شيء)
الرواية هي عن كاتب تظهر له من العدم شخصية رجل خمسيني غريب كئيب يخلق من العدم مع كم كبير من الكآبة والمآسي, تسيطر هذه الشخصية بشكلٍ كاملٍ وتؤرقه- خاصةً- عندما تصل الأحداث في الصباح لخامس من عمر هذا الرجل إلى الذروة حيث تدل الأحداث إلى نتيجةٍ حتميةٍ هي انتحار الشخصية ونهاية الرواية القصيرة الغريبة التي فرضت نفسها على الكاتب, لكن وبشكلٍ صادم فإن البطل يرفض الانصياع للمنطق ويقرر عدم الانتحار لأسباب غير معروفة للكاتب الذي يحاول التدخل لإعادة الأمور إلى نصابها ويقرر التدخل لإقناع البطل بضرورة الانتحار عن طريق الاستعانة بشخصية أخرى في الرواية, هنا يتمرد البطل ويقلب الطاولة على الكاتب لنجد أن الأدوار تتبدل فيصبح البطل كاتباً ويتحول الكاتب إلى شخصية روائية لا حول لها ولا قوة. فيعيد الكاتب الجديد سرد نفس الأحداث من زاوية جديدة لتتكشف لنا شيئاً فشيئاً حلول الألغاز التي أحاط بها الكاتب شخصيته المزعومة  
وتتبدل مشاعرك كقارئ من مشاعر كراهية واشمئزاز تجاه هذا الرجل الغريب الأطوار إلى مشاعر تعاطف وحزن عميق لدرجة أنك تتمنى لو كان بإمكانك القفز داخل صفحات الرواية لعلك تقدر أن تحضنه وتواسيه وتقدم له يد العون
ثيمة الرواية الأساسية هي رواسب مرحلة الطفولة وذكرياتها التي تحدد شخصية الإنسان في مراحل عمره المتقدمة وتأثير الأحداث والتجارب التي يمر بها الطفل وبصمتها في لا وعيه بحيث تتحكم في حياته وقراراته إلى حدٍ كبير 

مسكين هو (منوال) الذي ما إن ضحكت له الدنيا بعد طفولة تعيسة مضطربة, حتى كشرت له عن أنيابها بقسوةٍ ل مثيل لها, ليكتشف كذب المقولة التي لطالما آمن بها كطفل (أفعى الدار لا تخون, وحمام الدار لا يغيب), حيث تثبت له الدنيا بلا رحمة أن (أفعى الدار قد تخون وأن حمام الدار قد يغيب)

هذه بعض المقاطع التي تركت في نفسي أثراً عميقاً:
-كان مجيء التوأمين بعد سنوات انتظار وتدخل طبي وملازمة منيرة للسرير بمنزلة مكافأة لم نكن نحلم بها, نحن اللذان ما حلمنا بأكثر من مولود, ذكراً كان أم أنثى, لا يهم. طفرت الدموع من عيني منيرة وهي تعانقني وقت أخبرنا الطبيب أول مرة بحملها (لن أتحرك من فراشي إلى حين ولادتي) قالت وهي تعصر كفي
غالبتني دموعي وأنا افكر في حياة مقبلة (سوف أبقى إلى جانب الفراش وأكون أطرافك الأربعة) تحشرج صوتي وانا أحدثها وفي خلدي صورة أمي على فراش المرض تلوم والدي (بترت اطرافي). 
كنت اشعر بعناقي لمنيرة أني اعانق عائلة توشك أن تكون, متحرراً من خسارات عائلةٍ كانت

- تسممّر أمام مرآته.. أفزعته صورته على وجهها وهو يحدّق فيها.... (من أنت؟ ها!). أطال النظر في انعكاسه 

- الأمومة أمرٌ عظيم.. لكن لماذا تخاف الأمهات؟ أنا أكره الخوف.. هو لا يتذكر من أمه إلا صوتها غناءً أو خوفاً (الغناء زاد الروح في الأيام الحزينة) 

- كيف للحزن أن يتخذ من الجمال ثوباً على هذا النحو من السحر؟ .. وكيف للحزن إياه أن يسقط أمي بعد ذلك طريحة الفراش؟

- كنت مؤمناً بوجود ذلك الصوت, أردته أن يكون موجوداً وقت أوشك أن أفقد أملاً.. صوتٌ هنا في هذا الصدر, رطب يُلين صلابة صمت اليقين في رأسي.
غاب أخوتي, غابت أمي وبقي الهاتف على قيد موتٍ مؤجل... جاء أجله يوم فقد قطنة. مات الصوت في داخي, ذهب مثلما جاء هادئاً ساكناً, ذاك الذي لم أتيقن وجوده, رغم أنه موجود مثل شيء أكيد, كان وقت غياب أخوتي وأمي يبثني إيماناً بعودة الغائب وغاب هو الآخر حاملاً معه وعوداً كاذبة يوم رحيل قطنة.... (حمام الدار قد يغيب وأفعى الدار قد تخون)
ما كنت لأنتبه إللى موت إيماني الذي لم يكن إلا رغبةً ملحة لمستحيل لولا الصمت الذي احتلني على نحوٍ مفاجئ. (ما الذي كنت أتحرى سماعه؟) رحت أمعن التفكير. لا شيء! حاولت أن أتشبث بخيطٍ دقيق سرعان ما انقطع. ذلك الهاتف القديم الذي كان يردد.....! لذت بصمتي أسألني (يردد ماذا؟؟) كان الهاتف يمدني بكلماتٍ لا أتذكرها.. سألتني أخيراً (أي هاتف؟؟)

- يا نظير عيوني, ودعتك الله, يا نظير عيوني
  نحت أنا لو أبرا, نوح الحمامة, نحت أنا لو أبرا

- صمتٌ مزعج.. ليس للصمت اقترانٌ بالهدوء.. الصمت محض موت والموت فقد...أنا أكره الفقد

-أنا أذعن لإيماني.. والإيمان لا يعدو كونه رغبة, والرغبة ليست أكيدة التحقق.. ولكن شيئاً أفضل من لا شيء   

-أسئلة الفقد تطوقني.. ألعن عقلي, والسؤال.... وحده السؤال منحة العقل ومحنته, والإيمان هو أن تعلق أسئلتك على  حبال الغيب وأن تجمد عقلك وأن تعقد صفقة مع لا شيء... لأن لا سبيل لك إلا انتظار غدٍ قد يجيء بما تريد أو لا يجيء... لا العقل يسعفني ولا الإيمان ولا برزخ الأسئلة بينهما

أما أكثر عبارةٍ لا مستني فهي (يصير الرحيل أخف وطأة لو أوجد له مسوغاً... مجانية الفقد تحيله جرحاً مفتوحاً في صورة سؤال)

باختصار هي رواية مدهشة رغم حزنها..وأثناء انتظار جديد السنعوسي, أنصحكم حتماً بخوض تجربة الغوص في بحر هذه الرواية الأزرق الذي لا يشبه الأزرق الذي يحبه غالبيتنا
هذا الازرق الذي أضافت الرواية سبباً آخر لخوفي منه... أقصد البحر الازرق الذي أخافه جداً


دمتم قارئين
شيرين الخس


Friday, 29 March 2019

قراءتي في رواية (شيفرة بلال) - د. أحمد خيري العمري



قراءة في رواية (شيفرة بلال)- د.أحمد خيري العمري


عدد صفحات الرواية 395- من إصدار مؤسسة عكاظ للصحافة والنشر - عام الإصدار 1438 هجري-2017 ميلادي




يبدأ الكاتب روايته بالمقدمة المثيرة التالية: 

أن تتأثر بقصة بلال بن رباح شيء ، ولكن أن تتغير حياتك كلها بسبب ذلك شيء آخر تماما..
وأن يحدث ذلك في مجتمع عربي مسلم شيء ، ولكن أن يحدث في نيويورك؟!!
رغم غرابته فهذا ما حدث…قصة بلال بن رباح تغير مسار حياة أشخاص يعيشون في نيويورك ، حياة بعيدة تماما عن أي تغيير وبالذات عن تغيير يأتي من قصة رجل مات قبل أكثر من ألف عام.
لكن، ذات يوم ..يصل إيميل لأحدهم..، ويتغير كل شيء…
هذه الرواية هي قصة ما حدث معهم..بسبب (بلال)..
وما يمكن أن يحدث معك… 


لا أعرف إن كان عليّ حقاً أن أندم على تأجيل قراءتي لرواية(شيفرة بلال)  للدكتور أحمد خالد العمري،  أم أن عليّ أن أقرّ أن لكل ما يحدث موعدٌ مناسب له تماماً
هذه الرواية هي أول عمل أقرأه للعمري وأعتقد أنه لن يكون الأخير
(شيفرة بلال) خلطة سحرية غريبة... تناقش موضوعات حيوية مختلفة بطريقة بسيطة وسلسة غير مباشرة،  بحيث تجعلك تطرح على نفسك الكثير من التساؤلات بشكلٍ عفوي وإجباري في الوقت نفسه،  كما تجيب على الكثير من التساؤلات التي لابد أنها مرت على أذهاننا في لحظاتٍ معينة دون توجيه الاتهامات واطلاق الأحكام القاسية علينا كوننا سبق وتساءلنا بيننا وبين أنفسنا عن أمور تعتبر من البديهيات المسلّم بها
تحرك هذه الرواية عواطفك وتهزك من الأعماق لتضبط نفسك تبكي رغماً عنك في كثيرٍ من المواقف التي تحكيها
الرواية عبارة عن ربطٍ جميل لقصة مراهقٍ معاصر يدعى بلال يمر بعدة أزمات وتجارب قوية،  مع قصة بلال الحبشي الذي مر بدوره بالعديد من التجارب والتحولات الكبيرة 
كما تحكي أيضاً تورط كاتب سيناريو فيلم (بلال) عاطفياً مع بلال المراهق بشكلٍ قدري، وكيف كان لهذا الأثر الكبير على أفكار ومعتقدات ومصير هذا الكاتب الذي يظن نفسه ملحداً

الرواية عبارة عن مجموعة من المونولوجات التي  طرحها الكاتب على ألسنة أبطال روايته الحقيقيين والخياليين،  وكذلك العديد من الحوارات العميقة بين مختلف الشخصيات والرسائل المؤثرة التي كتبها بلال المراهق الذي عانى الكثير لعدة شخصيات والتي كانت وسيلة من وسائل تشافيه النفسي وأسلوبه المميز لترك أثره بعد الموت

تطرح هذه الرواية الكثير الكثير من الموضوعات العميقة كالتنمر وآثاره المدمرة اللامرئية على نفسيات الأطفال،  معاناة مريض السرطان وأحبابه وتقلباتهم العاطفية العنيفة،  الفرق بين علاقة الحب الصحية والمرضية وكيف تؤثر كل منها على نفسية وشخصية المحب،  معاناة الأم العزباء، معنى الصداقة الحقيقية،  أهمية الاصرار على النجاح ومحاربة الظروف وتغييرها من أجل النفس أولاً ومن أجل الآخرين ثانياً، ضرورة عدم الاستسلام في أي معركة وعدم القبول بالخسارة مهما كان الثمن،  وحدانية الله وسهولة وبساطة هدم الفكر الإلحادي الذي يقوم على أسس هشة،  ضرورة التحرر من العبودية بكل أشكالها وألوانها وضرورة التحرر من كافة القيود الداخلية والخارجية، أهمية اظهار مشاعرنا وامتناننا لوجود أحبتنا قبل فوات الأوان حتى نتجنب الشعور بالندم، شيفرة النجاح التي تصلح لكل زمان ومكان، ضرورة أن نستمتع باللحظنة الراهنة وألا نؤجل الحياة، ضرورة عدم قطع جميع الروابط وإقفال جميع الأبواب بيننا وبين الله وأهمية ألا نيأس من رحمة الله ومغفرته إن أخطأنا وأخيراً تركز الرواية على ضرورة إدراكنا لما يهم حقاً في هذه الحياة وتحثنا أن نفكر بأهمية أن نضع بصمةً مميزة وأن نترك أثراً يبقى بعد الموت يكون فيه فائدة للأجيال القادمة

المقاربات التي طرحتها الرواية كانت مميزة وتدعونا إلى قراءة التاريخ من زاوية مختلفة واسقاطه على الحاضر والأحداث والموضوعات الراهنة ليسمو من كونه مجرد قصص تاريخية إلى تراث من الحِكمة الإنسانية ومصدر ثمين من مصادر التعلم والتفكّر 
أحد أهم هذه المقاربات هو الربط بين صخرة سيزيف الشهيرة والصخرة التي اعتاد أمية أن يضعها على صدر بلال الحبشي كنوع من التعذيب ليعود عن إسلامه
كذلك الربط بين مقتل أمية والتغلب على المخاوف الداخلية التي يمكن لأمية الذي بداخلنا أن يكون رمزاً لها

كذلك المقارنة بين شخصية ومعاناة كونتا كونتي في رواية (جذور) للكاتب اليكس هيلي بشخصية ومعاناة بلال الحبشي وبلال المراهق بطل الرواية

أحببت تشبيه لاتيشا لحياة ابنها بلال القصيرة بحياة الفراشة وإصرارها على مساعدته في ايجاد رسالته في ما بقي له من أشهرٍ قليلة في هذه الحياة وإيجاد طريقة مميزة ليترك من خلالها أثراً يخلّد ذكراه ويقدم الفائدة والإلهام للناس بعد موته
وطبعاً ذكرني هذا التشبيه بقصيدة محمود درويش التي تقول في مطلعها 
(أثر الفراشة لا يُرى.. أثر الفراشة لا يزول) 
وتذكرت كذلك تشبيه جون دومينيك بوبي لروحه بالفراشة المسجونة في جسده المشلول الذي يشبه بذلة الغوص الضيقة


الرواية فيها الكثير من الاقتاباسات العميقة،  التي أورد بعضها على سبيل المثال لا الحصر:

- في هذه المعركة ، هزيمتي الحقيقية ليست الموت الآتي لا محالة ، بل هزيمتي عندما تقتل إرادة الحياة في داخلي ، عندما أموت قبل أن أموت ، عندما أموت دون أن أترك أثرًا ( للحياة ) في هذا العالم

-ان تؤمن شيء،ولكن ان تظهر هذا الإيمان شيء أخر .خاصة عندما يكون هذا الايمان مهددا محاربا .وخاصة عندما تكون عبدا مملوكا عند سيد يؤمن بالاوثان يعتقد انك لست مملوكا له فحسب بل يعتقد انك قد ولدت بناء على رغبته في الحصول على المزيد من الربح


- العبوديّات كثيرةٌ جداً، ولكن طرُق الخلاص منها دائماً متشابهة...‬‫دائماً ثمّة نمط متكرر في الخروج

- بعض الطرق يجب أن تكون صعبة، بعض الأماكن لا يمكن الوصول إليها إلا عبر الطرق الوعِرة، لو كانت سهلة لما كان يمكن الوصول إليها أصلاً، لو كانت سهلة لما عرفنا قيمة ما وصلنا إليه أصلاً

- ما دمنا نعاني بكل الأحوال ، فلنجعل لمعاناتنا معنى

- عندما يتغير القانون ، ولو على نحوٍ كاملٍ وجذري ، فإن هذا لا يعني أن مافي النفوس قد تغير بالضرورة ..ذلك أن هناك أشياء هلامية ، لا تُرى ، تتحكم في تنفيذ هذا القانون !

- الصخرة واحدة..
مرة مع سيزيف، مثالًا للعبثية واللا جدوى.
ومرة مع بلال، مثالًا للإيمان الذي يقوي الأشخاص، يحرّرهم من قيودهم، من ضعفهم..
في حياة كل منّا، هناك دائمًا هذا الخيار..
صخرة ما، نجعلها كصخرة سيزيف، ونقضي حياتنا في العبثية واللا جدوى..
أو صخرة نجعلها كصخرة بلال، تجعلُنا مصاعبُها نكتشف قوّتنا..
دائما ثمة صخرة ما..
وهناك اختيار واعٍ نختاره..
سيزيف أو بلال.



في النهاية أنصحكم بقراءة هذه الرواية التي قد تكون تجربة جديدة عليكم ، وسواء أحببتموها أم لا فهي ستترك دون شك أثراً عظيماً في نفوسكم
ودمتم قارئين