Friday, 7 June 2019

قراءتي في رواية (العمى)- للكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو


رواية (العمى)- للكاتب البرتغالي الحائز على جائزة نوبل للآداب جوزيه ساراماغو
ترجمة محمد حبيب -صدرت الرواية مترجمة للناشر دار المدى عام 1998
كذلك توجد ترجمة أخرى لعلي عبد الأمير صالح نشرتها دار الجمل
الرواية صدرت بلغتها الأصلية عام 1995 - عدد الصفحات 279 صفحة





رغم سمتها الفنتازية,  تبقى هذه الرواية بسوداويتها قريبة جداً من سياق الأزمات الأخلاقية المتفاقمة التي لا زالت منذ الأزل تحيط بنا والتي زادت في عصرنا الحالي لأسباب عديدة
ورغم لا معقولية هذه الرواية لكن القارئ لن يشعر بالاغتراب وهو يعايش تفاصيلها, فهي تمس حياتنا جميعاً بشكلٍ أو بآخر 
فالحدث الغريب الذي يختلقه الكاتب في بداية الرواية ألا وهو العمى يفرض نفسه بقوة فيعرّي البشر من أوراق الغابة التي يتسترون بها عبثاً لتظهر حقيقتهم البشعة ويتحوّل المجتمع المتحضّر إلى غابةٍ متوحشة يعربد فيها شيطان الأنا وتسود القوانين الحيوانية (مع  تحفظي على هذا التشبيه, حيث أصبح, برأيي, عالم الحيوان في أيامنا هذه أنقى وأطهر من عالمنا الإنساني
الرواية هي تصوّر لما سيؤول إليه العالم حين يغيب البصر من عيون الناس والحكمة من عقولهموتملأ العتمة قلوبهم وأرواحهم فتموت الضمائر ويتحكم الشيطان في تصرفاتهم, حيث تسلط الرواية الضوء على حقيقة مفزعة ألا وهي هشاشة الأخلاق البشرية أمام العوز البشري, وهذا ما بتنا نراه متجلياً في المناطق شديدة الفقر والجهل في العالم حيث يسود مبدأ البقاء للأقوى
هي, باختصار, تعرية لواقعنا الذي يتوارى فيه الجميع خلف أقنعة يلبسها الأفراد ي مجتمعٍ يدّعي الفضيلة ويسوده الرياء, حيث يقوم أبطال الرواية بخلع أقنعتهم في ظل عدم الحاجة لها بعدما بات الجميع عمياناً وظهرت الصراعات على الطعام والدواء, ليغدو المجتمع أشبه ما يكون بغابةٍ يتحول فيها الإنسان المتحضّر إلى وحشٍ ضارٍ بل وربم أشد فتكاً وقسوة من هذه الوحوش
لعلها صرخةً مدوية أراد سارراماغو من خلالها إيقاظ البشرية من سباتها والتأكيد على أهمية الأخلاق والقيم السامية كوسيلة وحيدة للنجاة من شرور المجتمع المتوارية خلف الأقنعة , لكن ساراماغو يبقي الأمل منعشاً من خلال زوجة الطبيب (لشخص الوحيد الذي لا تصيبه العدوى) فهي التي تولت مهمة إرشاد المجموعة ودافعت عن الإسانية وتصدت للعصابة على طول الرواية

ولجعل هذه الرواية شمولية أو عالمية, تصلح لكل زمانٍ ومكان, نجد أن ساراماغو لم يشر إلى اسم المدينة أو البلد, وحتى أنه ترك الشخصيات بلا أأسماء واكتفى بأن أطلق عليهم صفات تميزهم فهناك الطبيب, زوجة الطبيب, الأعمى الأول وزوجته, لص السيارة, الفتاة ذات النظارة السوداء, العجوز ذو عصابة العين السوداء, الطفل الأحول, كلب الدموع وغيرهم
هذا ما أعطى الرواية بعدها العالمي فهي تنتقد الطبيعة البشرية وتناقش تناقضاتها النفسية والاجتماعية والأخاقية في غياب الوعي (البصر) بغض النظر عن الانتماء العرقي أو الديني أو غيره
 جدير بالذكر أن الكاتب لم يلتزم بأسس الحوار المتعارف عليها, فقد اختلط في الرواية الحوار المسموع بالمونولوج الداخلي من خلال سرد مسترسل يتخلله أحياناً وصف دقيق وبعض الصور الوصفية البسيطة أحياناً أخرى, وقد اختار ساراماغو راويين اثنين, أولهما راوٍ مجهول شاهد على الأحداث والثاني هو الشخص المعايش للأحداث (زوجة الطبيب) كونها الشخص المبصر الوحيد, ماقد يسبب 
الإرباك للقارئ خاصةً مع عدم وضع الأقواس المزدوجة للجمل الحوارية وهو الأسلوب الذي تفرد به ساراماغو

تبدأ القصة الغريبة بحدثً مفاجئ حيث تتوقف سيارة في الطريق العام ليكتشف صاحبها أنه بوغت بالعمى فبات فجأةً لا يرى سوى اللون الأبيض, فيتطوع أحد المارة لإيصال الرجل إلى بيته لتكتشف زوجته حين أرادت اصطحابه إلى الطبيب أن هدف المتطوع الحقيقي كان سرقة السيارة, وبعدها يبدأ انتشار الوباء وتبدأ الأحداث بالتسارع ويأخذ المجتمع بالانهيار لينتهي الوباء في نهاية الرواية فجأة وبطريقة غامضة كما بدأ, ولكن لا يعود بعدها شيئ كما كان قبله
جدير بالكر أن الرواية لها جزء ثلنٍ بعنوان (البصيرة) صدر عام 2004
كما أن هذه الرواية (العمى)  قد تم تحويلها إلى فيلم عام 2008 من إخراج فرناندو ميريليس وبطولة مارك رافالو وجوليان مور, ما تم اقتباس عدة مسرحيات منها. وكذلك تم بموافقة ساراماغو اقتباس عرض أوبرا يحمل نفس الاسم من تألف الموسيقي الألماني (Anno Schreier) عام 2011 

ذكرني موضوع هذه الرواية, برواية رائعة  قرأتها منذ سنواتٍ طوال بعنوان (بلد العميان) للكاتب هربرت جورج ويلز, حيث أن الفكرة في الروايتين واحدة وهي وجود شخص مبصر وحيد في بلدٍ كل من فيها أعمى, طبعاً مع الاختلاف الجذري بين الروايتين من حيث الأحداث والرسالة المراد توصيلها 

أترككم مع بعض الجمل المميزة العميقة في الرواية : 

– الطبيب: إن استعدت نظري ثانيةً، فسوف أُدقق النظر في أعين الآخرين، وكأنني أنظر في ارواحهم ... في أرواحهم أم عقولهم ؟

– الكهل ذو العين المعصوبة: لاتهم التسميات حتى لوكانت مثيرة للدهشة، إذا ماأخذنا في الحسبان اننا نتعامل مع ناس غير مثقفين 

– الفتاة ذات النظارة السوداء: إن في داخلنا شيئاً ما لا اسم له،وذلك الشيء هو مانحن عليه. 

في نهاية الرواية تقول زوجة الطبيب لاأعتقد اننا عمينا بل أعتقد اننا عميان يرون، بشر عميان يستطيعون ان يروا، لكنهم ( لايرون )


وكما دائماً, فلن أحرق عليكم أحداث الرواية بل أنصحكم بقراءتها  بأنفسكم, فلابد من أن ترون فيها بعداً جديداً خاصاً بكم

دمتم قارئين
شيرين الخس