Friday, 29 March 2019

قراءتي في رواية (شيفرة بلال) - د. أحمد خيري العمري



قراءة في رواية (شيفرة بلال)- د.أحمد خيري العمري


عدد صفحات الرواية 395- من إصدار مؤسسة عكاظ للصحافة والنشر - عام الإصدار 1438 هجري-2017 ميلادي




يبدأ الكاتب روايته بالمقدمة المثيرة التالية: 

أن تتأثر بقصة بلال بن رباح شيء ، ولكن أن تتغير حياتك كلها بسبب ذلك شيء آخر تماما..
وأن يحدث ذلك في مجتمع عربي مسلم شيء ، ولكن أن يحدث في نيويورك؟!!
رغم غرابته فهذا ما حدث…قصة بلال بن رباح تغير مسار حياة أشخاص يعيشون في نيويورك ، حياة بعيدة تماما عن أي تغيير وبالذات عن تغيير يأتي من قصة رجل مات قبل أكثر من ألف عام.
لكن، ذات يوم ..يصل إيميل لأحدهم..، ويتغير كل شيء…
هذه الرواية هي قصة ما حدث معهم..بسبب (بلال)..
وما يمكن أن يحدث معك… 


لا أعرف إن كان عليّ حقاً أن أندم على تأجيل قراءتي لرواية(شيفرة بلال)  للدكتور أحمد خالد العمري،  أم أن عليّ أن أقرّ أن لكل ما يحدث موعدٌ مناسب له تماماً
هذه الرواية هي أول عمل أقرأه للعمري وأعتقد أنه لن يكون الأخير
(شيفرة بلال) خلطة سحرية غريبة... تناقش موضوعات حيوية مختلفة بطريقة بسيطة وسلسة غير مباشرة،  بحيث تجعلك تطرح على نفسك الكثير من التساؤلات بشكلٍ عفوي وإجباري في الوقت نفسه،  كما تجيب على الكثير من التساؤلات التي لابد أنها مرت على أذهاننا في لحظاتٍ معينة دون توجيه الاتهامات واطلاق الأحكام القاسية علينا كوننا سبق وتساءلنا بيننا وبين أنفسنا عن أمور تعتبر من البديهيات المسلّم بها
تحرك هذه الرواية عواطفك وتهزك من الأعماق لتضبط نفسك تبكي رغماً عنك في كثيرٍ من المواقف التي تحكيها
الرواية عبارة عن ربطٍ جميل لقصة مراهقٍ معاصر يدعى بلال يمر بعدة أزمات وتجارب قوية،  مع قصة بلال الحبشي الذي مر بدوره بالعديد من التجارب والتحولات الكبيرة 
كما تحكي أيضاً تورط كاتب سيناريو فيلم (بلال) عاطفياً مع بلال المراهق بشكلٍ قدري، وكيف كان لهذا الأثر الكبير على أفكار ومعتقدات ومصير هذا الكاتب الذي يظن نفسه ملحداً

الرواية عبارة عن مجموعة من المونولوجات التي  طرحها الكاتب على ألسنة أبطال روايته الحقيقيين والخياليين،  وكذلك العديد من الحوارات العميقة بين مختلف الشخصيات والرسائل المؤثرة التي كتبها بلال المراهق الذي عانى الكثير لعدة شخصيات والتي كانت وسيلة من وسائل تشافيه النفسي وأسلوبه المميز لترك أثره بعد الموت

تطرح هذه الرواية الكثير الكثير من الموضوعات العميقة كالتنمر وآثاره المدمرة اللامرئية على نفسيات الأطفال،  معاناة مريض السرطان وأحبابه وتقلباتهم العاطفية العنيفة،  الفرق بين علاقة الحب الصحية والمرضية وكيف تؤثر كل منها على نفسية وشخصية المحب،  معاناة الأم العزباء، معنى الصداقة الحقيقية،  أهمية الاصرار على النجاح ومحاربة الظروف وتغييرها من أجل النفس أولاً ومن أجل الآخرين ثانياً، ضرورة عدم الاستسلام في أي معركة وعدم القبول بالخسارة مهما كان الثمن،  وحدانية الله وسهولة وبساطة هدم الفكر الإلحادي الذي يقوم على أسس هشة،  ضرورة التحرر من العبودية بكل أشكالها وألوانها وضرورة التحرر من كافة القيود الداخلية والخارجية، أهمية اظهار مشاعرنا وامتناننا لوجود أحبتنا قبل فوات الأوان حتى نتجنب الشعور بالندم، شيفرة النجاح التي تصلح لكل زمان ومكان، ضرورة أن نستمتع باللحظنة الراهنة وألا نؤجل الحياة، ضرورة عدم قطع جميع الروابط وإقفال جميع الأبواب بيننا وبين الله وأهمية ألا نيأس من رحمة الله ومغفرته إن أخطأنا وأخيراً تركز الرواية على ضرورة إدراكنا لما يهم حقاً في هذه الحياة وتحثنا أن نفكر بأهمية أن نضع بصمةً مميزة وأن نترك أثراً يبقى بعد الموت يكون فيه فائدة للأجيال القادمة

المقاربات التي طرحتها الرواية كانت مميزة وتدعونا إلى قراءة التاريخ من زاوية مختلفة واسقاطه على الحاضر والأحداث والموضوعات الراهنة ليسمو من كونه مجرد قصص تاريخية إلى تراث من الحِكمة الإنسانية ومصدر ثمين من مصادر التعلم والتفكّر 
أحد أهم هذه المقاربات هو الربط بين صخرة سيزيف الشهيرة والصخرة التي اعتاد أمية أن يضعها على صدر بلال الحبشي كنوع من التعذيب ليعود عن إسلامه
كذلك الربط بين مقتل أمية والتغلب على المخاوف الداخلية التي يمكن لأمية الذي بداخلنا أن يكون رمزاً لها

كذلك المقارنة بين شخصية ومعاناة كونتا كونتي في رواية (جذور) للكاتب اليكس هيلي بشخصية ومعاناة بلال الحبشي وبلال المراهق بطل الرواية

أحببت تشبيه لاتيشا لحياة ابنها بلال القصيرة بحياة الفراشة وإصرارها على مساعدته في ايجاد رسالته في ما بقي له من أشهرٍ قليلة في هذه الحياة وإيجاد طريقة مميزة ليترك من خلالها أثراً يخلّد ذكراه ويقدم الفائدة والإلهام للناس بعد موته
وطبعاً ذكرني هذا التشبيه بقصيدة محمود درويش التي تقول في مطلعها 
(أثر الفراشة لا يُرى.. أثر الفراشة لا يزول) 
وتذكرت كذلك تشبيه جون دومينيك بوبي لروحه بالفراشة المسجونة في جسده المشلول الذي يشبه بذلة الغوص الضيقة


الرواية فيها الكثير من الاقتاباسات العميقة،  التي أورد بعضها على سبيل المثال لا الحصر:

- في هذه المعركة ، هزيمتي الحقيقية ليست الموت الآتي لا محالة ، بل هزيمتي عندما تقتل إرادة الحياة في داخلي ، عندما أموت قبل أن أموت ، عندما أموت دون أن أترك أثرًا ( للحياة ) في هذا العالم

-ان تؤمن شيء،ولكن ان تظهر هذا الإيمان شيء أخر .خاصة عندما يكون هذا الايمان مهددا محاربا .وخاصة عندما تكون عبدا مملوكا عند سيد يؤمن بالاوثان يعتقد انك لست مملوكا له فحسب بل يعتقد انك قد ولدت بناء على رغبته في الحصول على المزيد من الربح


- العبوديّات كثيرةٌ جداً، ولكن طرُق الخلاص منها دائماً متشابهة...‬‫دائماً ثمّة نمط متكرر في الخروج

- بعض الطرق يجب أن تكون صعبة، بعض الأماكن لا يمكن الوصول إليها إلا عبر الطرق الوعِرة، لو كانت سهلة لما كان يمكن الوصول إليها أصلاً، لو كانت سهلة لما عرفنا قيمة ما وصلنا إليه أصلاً

- ما دمنا نعاني بكل الأحوال ، فلنجعل لمعاناتنا معنى

- عندما يتغير القانون ، ولو على نحوٍ كاملٍ وجذري ، فإن هذا لا يعني أن مافي النفوس قد تغير بالضرورة ..ذلك أن هناك أشياء هلامية ، لا تُرى ، تتحكم في تنفيذ هذا القانون !

- الصخرة واحدة..
مرة مع سيزيف، مثالًا للعبثية واللا جدوى.
ومرة مع بلال، مثالًا للإيمان الذي يقوي الأشخاص، يحرّرهم من قيودهم، من ضعفهم..
في حياة كل منّا، هناك دائمًا هذا الخيار..
صخرة ما، نجعلها كصخرة سيزيف، ونقضي حياتنا في العبثية واللا جدوى..
أو صخرة نجعلها كصخرة بلال، تجعلُنا مصاعبُها نكتشف قوّتنا..
دائما ثمة صخرة ما..
وهناك اختيار واعٍ نختاره..
سيزيف أو بلال.



في النهاية أنصحكم بقراءة هذه الرواية التي قد تكون تجربة جديدة عليكم ، وسواء أحببتموها أم لا فهي ستترك دون شك أثراً عظيماً في نفوسكم
ودمتم قارئين