Monday, 13 August 2018

قراءة في رواية (وليمة لأعشاب البحر) - الكاتب السوري حيدر حيدر



قراءة في رواية (وليمة لأعشاب البحر)- للكاتب حيدر حيدر





الاستلاب والغبن التاريخي المزمن الذي صار دمغة خاصة بالشعوب العربية المهزومة من الخارج والداخل

لعنة الأزل اللا منطقية القاهرة



روايةٌ أقلّ ما يقال عنها أنها ملحمة ساحرة قلّ مثيلها في أيام الأدب الرخيص الاستهلاكي الذي كاد ينسينا كيف يكون الأدب رسالة تعكس آلام الشعوب ورغباتها.

ربما لن يكون هذا مستغرباً إن عرفنا أن الكاتب استغرق 9 سنوات في كتابة روايته التي سببت عاصفة من الامتعاض والرفض في صفوف الكثيرين. لكن هذا الرفض والاستنكار لم يأتَ عند اصدار الرواية ونزولها إلى الأسواق بل كان بعد 17 عاماً من صدورها, وتحديداً عام 2000 حين قررت الهيئة العامة لقصور الثقافة إعادة طباعتها, لتثير عاصفة من الاستنكار والهجوم إلى حد طلب محاكمة كاتبها أمام القضاء المصري بتهمة التطاول على الذات الإلهية وازدراء الأديان.

في الحقيقة أنا ممتنة لكل من هاجم الرواية, إذ أن هذا كان السبب في قراءتي لها في المقام الأول, رغم تأجيل القراءة لعدة أعوام بسبب العنوان الذي لم يشدني للقراءة, والذي صار في نظري, بعد قراءتي لها, عنواناً عبقرياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

بعد قراءتي للرواية لم أفهم سبب محاربتها سوى أن من حاربها كان هدفه أن لا يصل محتواها العبثي الصادم الموجع للقارئ العربي, خوفاً من أن يفيق من غيبوبته. بينما كانت الحجة المقنعة التي لا يمكن مناقشتها هي تعديها على الأديان والذات الإلهية, وربما كان هذا رأي من قد يقرأ الرواية بسطحية دون الغوص والابحار فيها.

طبعاً لا يمكن أن ننكر أن الرواية تحوي الكثير من الشتائم الدينية والكلام البذيء, لكن زيارة صغيرة إلى شوارع سوق من أسواق أي بلد عربي ستكون كفيلة بإدراكنا أن هذه الشتائم وحتى الأفكار منتشرة للغاية في مجتمعاتنا مع الأسف الشديد.

بالتأكيد لا دينية الكاتب ظاهرة جلية, لكن شتائمه والمفردات البذيئة التي اختارها جاءت ملائمة لشخصية قائليها ,وكذلك انتقاداته التي قد يراها البعض ساخرةً من الدين هي في الحقيقة انتقادات لشوزفرينية المجتمعات العربية التي تتكلم عن الفضائل ولا تمارسها, والتي تتكلم عن حرية المعتقدات بينما تصادر الرأي الآخر. (رغم أن كل هذا كان في نظري مبرراً إلا أنني لا أخفي امتعاضي من هذا وانزعاجي الشديد عند المرور عليه أثناء القراءة)     

العبثية هي الفكرة الطاغية على أحداث الرواية, حيث نرى كيف أن الخاسر في الثورة هو الشعب الذي يضحي بكل ما لديه بكل عنفوانً وشموخ لدرجة يسيل معها دمه وهو يقاوم رافضاً الاستسلام, ليتحول بعدها هذا الوطن إلى لعبة بيد السياسيين يتقاسموه حسب قوانين اللعبة السياسية, كما نرى كيف يتوحد الشعب ضد المحتل الأجنبي ثم يعود لانقساماته بعد جلاء المحتل.

اللافت للنظر هو كون الكاتب سوري بينما اختار خلفيةً لروايته ثقافتين بعيدتين عن بعضهما جغرافياً إحداهما شرقية والأخرى مغاربية. لكن لن يبدو هذا غريباً حين نعرف أن الكاتب كان مُنتدباً إلى الجزائر عقب جلاء المستعمر الفرنسي ليساهم في ثورة التعريب التي أعقبت الاستقلال. حيث سمع الكثير من القصص التي ساهمت في خلق هذا العمل الأدبي الذي لم أجده روايةً بقدر ما وجدته مجموعة من القصص ذات الحبكة الجميلة التي يربط بينها خيط عريض محكم برشاقة.

رواية مرهقة منهكة ممتلئة بالوجع العربي العبثي والعود الأبدي للقمع والتعذيب والنفي الذي تتناقله الأيدي, فتارةً يكون ممارسه هو المستعمر ليصبح بعد رحيل هذا المستعمر بيد أبناء الشعب الذين يمارسونه ضد بعضهم بطريقةٍ أكثر وجعاً وإيلاماً.

تناقش الرواية الواقع السياسي والاجتماعي في العراق والجزائر في النصف الثاني من القرن العشرين, هذان البلدان يتطابقان, رغم البعد الجغرافي والاختلاف التاريخي, في العصبية والثورة والايديولوجيات, فالقالب نفسه حتى وإن اختلفت القشرة الخارجية. العنصر المشترك بينهما هو الثورة والضياع والاخفاقات والأوجاع واللامنطقية.

أهم أفكار الرواية هو المقاربة بين الحركة الثورية العراقية للحزب الشيوعي وما آل إليه العراق بعد انتفاضة الأهوار وتغلّب القوميين وذلك بعد عام 1963 وكارثة الأهوار عام 1968,من خلال شخصيتين رئيستين هما مهدي جواد ومهيار الباهلي, وبين ما آلت إليه الجزائر بعد نهاية حرب الاستقلال الجزائرية (ثورة المليون شهيد) وانقلاب بومدين على بن بللا وما حدث من شتات لروح الكفاح الوطني الجزائري من خلال شخصيتين رئيستين هما آسيا الأخضر وفلة العنابية. كما تطرح العديد من القضايا الفرعية كحرية المرأة والتدين الظاهري والتعصب والعلاقة بين العرب والغرب ونظرة كل منهما للآخر.

مهدي جواد معلم اللغة العربية الذي أتى من العراق إلى الجزائر للمساهمة في ثورة التعريب بعد انتهاء الاستعمار الفرنسي, والذي كما أرجح هو انعكاس لشخصية الكاتب نفسه, والذي رغم ما يوحيه اسمه من انتمائه إلى خلفية دينية إلا أنه وكما يبدو جلياً هو رجل لا ديني شيوعي ترك العراق هرباً من فشل الثورة الشيوعية ومن الخوف والقتل ليتجه إلى الجزائر وإلى مدينة عنابة (التي أصرّ الكاتب على تسميتها باسمها القديم بونة) حاملاً معه رواسب ثورته ليجد نفسه عاشقاً لفتاة (آسيا الأخضر), ويظل شبح الخوف يلاحق هذا الرجل الثوري الهارب من وطنه بحثاً عن التوازن الداخلي في بلدٍ آخر لم يكن منفى بالصورة التقليدية للمنافي حيث تماهت في نفس البطل ذكرى الأحداث والأهوال التي عايشها في العراق مع ذكرى الأهوال التي حملتها آسيا الأخضر عن الثورة الجزائرية.

الشخصية الثانية هي شخصية مهيار الباهلي الذي يتفق مع صديقه مهدي جواد في أفكاره الثورية, والذي شارك في الثورة المسلحة في الأهوار في جنوب العراق, إلا أنه يختلف عن مهدي في كونه كان مثالياً بقدر ما تسمح له الظروف فنراه مخلصاً لزوجته على طول الرواية رغم الاغراءات المتكررة التي تعرض لها من قبل صاحبة البنسيون الذي كان يسكنه (فلة بوعناب), ولا يقيم معها علاقة جنسية إلا قبيل انتهاء الرواية وطرده من الجزائر مع صديقه مهدي وتحت تأثير الحمى والهيستريا التي قاربت الجنون، أي في ظروفٍ غير طبيعية, الأمر الذي ما كان ليحدث لو كان بكامل إرادته.  كما ظهر مهيار كصديقٍ صدوق وفي لمهدي حيث دافع عنه باستماتة أمام مخابرات الحزب البعثي (الذي لم يذكر الكاتب اسمه صراحة) إلى درجة أنه تلقى لأجل هذا ضربة من زجاجة في رأسه. ورغم أن مهيار تعرض أيضاً للطرد من الجزائر مثله مثل مهدي إلا أن أسباب الطرد كانت مختلفة, فمهدي جواد طرد بسبب علاقته بآسيا التي لم تدخل الجامعة بعد, أما مهيار الباهلي فطرد بسبب مجاهرته بالماركسية ودفاعه عن الاشتراكية علناً حتى أثناء الدوام الدراسي وفي حجرة الصف.

ما يبقى مجهولاً غامضاً هو كيف نجا مهيار بعد معركة الأهوار التي قُتل فيها كل أصدقائه وبقي وحده حياً.

الشخصية الثالثة هي فلة بو عناب المرأة الثائرة التي تحولت بعد الثورة إلى عاهرة, والتي حملت في نفسها الكثير من المرارات والإحباطات نتيجةً لما آلت إليه الأمور, والتي كان وجودها ضرورياً لسرد الكثير من الأحاديث وسَوق الآراء التي تسلط الضوء على الواقع في الجزائر بين الماضي والحاضر.

شخصيتنا الرئيسة الأخيرة هي آسيا الأخضر التلميذة سليلة المقاوم العربي الأخضر والتي عبرها تدفقت النقاشات العميقة بينها وبين مهدي جواد, الذي أحبها وأحبته, والذي استحضرت من خلاله شخصية أبيها بكل ما تحمله من أفكار ثورية وقيم عظيمة مقارنةً بيزيد ولد الحاج (زوج أمها لالا فضيلة)  بكل ما تحمله شخصيته من استبداد ومخلفات اجتماعية وتعصب ديني, هذا الليبرالي الذي يجيد فقط جمع المال وتعدد الزوجات والذي يخاف التأميم ويعمل كل جهد لشيطنة الشيوعية.  

اختيار اسم آسيا لبطلة الرواية الجزائرية كان له وقع جميل في نفسي، إذ كأنه دلالة على أن العربي عربي سواءً كان آسيوياً أم افريقياً.

جميع هذه الشخصيات تبدو حائرة مهزومة عاجزة أمام الواقع البراجماتي الذي وجدت كل منها أنه يحيط بها بعد انتهاء الثورات. 

وقد نجح الكاتب في سبر أغوار النفس البشرية المعقدة من خلال رسم شخصياته بواقعية باستخدام لغة حوار مناسبة لكل منها ومختلفة فيما بينها بحيث تعكس هذه اللغة شخصية المتحدث بها وخلفيته الدينية والثقافية والاجتماعية, ولكن يؤخذ على الكاتب انحيازه الواضح للشيوعية حيث جعل شخصياته التي تشاركه نفس الأيديولوجية مثالية, بينما بالغ في تشويه الشخصيات ذات الانتماءات المختلفة.

أعجبني توظيف بعض الكلمات العامية العراقية والجزائرية في الحوار فقد كان موفقاً وأضاف إلى الرواية بعداً واقعياً محبباً إلى النفس.

كما أن لغة الرواية سحرتني منذ السطر الأول حيث كانت جزلةً فصيحةً رشيقة حد الابهار, كما كان وصف الكاتب للأماكن والمشاعر يتصف بسريالية وشاعرية تخطف القلب, رغم التعكير الذي سببته الشتائم الجنسية التي لم أرَ لها داعٍ كما ذكرتُ سابقاً, والتي ربما فرضها طبع الجزائريين والعراقيين الذين وصفهم الكاتب أكثر من مرة وعلى لسان عدة شخصياتٍ بأنهم عصبيين ودمهم حار (سخون).

لكن لا بد من ذكر أن الرواية تتطلب الكثير من الصبر وحضور الذهن للربط بين الأحداث والأزمنة والأمكنة التي ما انفك الكاتب ينتقل بينها بما يشبه أمطار الهذيان والكوابيس السريالية. مما يتعب القارئ الذي عليه لملمة خيوط الأحداث المتشابكة وربطها ببعضها.

الرواية التي قسّمها الكاتب إلى فصولٍ منها فصول السنة مبتدئاً بالخريف هي مزيج من الفلسفة والسياسة والدين والسريالية والواقعية والتاريخ والأدب والجنس والجنون والعبثية والتيه والشبق مقدمةً في قالبٍ بلاغي ساحر, لا يعكر صفوه سوى إطالة السرد الذي بدا مملاً في بعض الأحيان.

أكثر الفصول إيلاماً هو فصل (نشيد الموت) والذي تحدّث فيه الكاتب بالتفصيل عن معارك الأهوار العراقية والصراع المرير لأبطال الثورة في المستنقعات الباردة الموحشة والتي باتت في النهاية مقبرةً لأجسادهم العارية التي قاومت المدافع والطائرات لتغرق في النهاية في مستنقعات الدم والوحل. وتصبح وليمة لا تشابهها وليمة, كما يوحي عنوان الرواية.

بعد الانتهاء من قراءة الرواية يشعر القارئ بالفراغ والعدمية واللا جدوى ويرسّخ هذا الشعور صورة الثائر (عمر يحياوي) أخو لالا فضيلة, والذي جعلنا الكاتب نعايش معاناته خلال فترة اعتقاله ونعاني نفسياً بسبب محاولة هضم تفاصيل تعذيبه المأساوية ليصدمنا الكاتب بما آلت إليه حال هذا المناضل العظيم الذي تحمّل ما لا يُحتمل في سبيل قضيته, لنرى كيف بات في النهاية سكّيراً عربيداً متنقلاً من فراش امرأة إلى فراش أخرى.

أما عن النهاية, فقد كانت موغلة في الرمزية وغير مفهومة كليةً, لكنها وبحسب ما توحيه الأحداث التي سبقتها توحي بنهاية الحب الجارف اللامنطقي بين مهدي جواد المعلم العراقي وبين آسيا الأخضر التلميذة الجزائرية.

أكثر الفقرات وجعاً هي بلا شك هي فقرة القطار, حيث قام الجنود بطلاء عربات قطار بضائع خالية من أية فتحات للتهوية بالقار, ثم كدسوا فيه آلاف الشيوعيين وأطلقوا القطار بسرعةٍ بطيئة تحت الشمس اللاهبة كي يموت كل هؤلاء من الحر ونقص الاوكسجين, لكن عندما علم السائق بالخطة وأوقف القطار وفُتحت العربات قبل الموعد المحدد للموت الجماعي المريع، خرج البشر يتلوون في القيء والقار الساخن بنصف وعي وقد مات من مات منهم. كذلك قضّ مضجعي وصف التعذيب الذي تعرضت له بعض الشخصيات ومنهم الأخضر أبو آسيا, من استخدام الكهرباء على الأعضاء الجنسية إلى تقطير الزئبق في العيون وغيرها من الأساليب الوحشية اللا إنسانية.  

من أجمل الاقتباسات:

 اذا يتموج الحنين لزمن مضى،  يستعاد ولا يعود.  يتقدم كما ينمو شعاع من أفق أو حرف نصلٍ لامع سابحاً في سماوات غريبة داخل مسافات لا تنتهي،  يتقدم ليغوص على مهل في المسام الشفافة لروحٍ غدت وحيدة على حافة الهاوية

تأتي دفقة ريح من النافذة فيضغطها إلى أضلاعه، يبكيان كطفلين.
والآن هما منصهران،  وخائفان وغير محميين سوى بجسديهما. يرتعشان تحت هذه الريح الملعونة.  الريح التي تجتاحهما وتؤاخيهما كالأغصان.  وهما الآن قريبان وأليفان إلفة طائرين فوق صخرة وحيدة عائمة فوق بحر مضطرب.  وفي السر سيقول أحدهما للآخر همساً: خذ بيدي لآخذ بيدك في مهب الريح الزعزع. أنت لي وأنا لك فلنبنِ بيتاً يتحدى الإعصار. ثم تشتبك الأصابع والوجوه والضلوع ومجاري الدم.

حقيقةً انا مندهش من هذا الأسود الذي يطلي كل عالمك.  تبدو لي في معظم الأحيان ملتاثاً بلوثة عدمية تسد كل أبواب الأفق.  لماذا هذا السلب المطلق وهذه الذاتية المقروحة؟  هل أنت وأنا نهاية التاريخ والكون؟  عجيب! 

زمن جديد يطلع.  نجم ساطع في ليل.  امرأة العصور الجديدة التي حلمت بها مذ كانت الدنيا سديماً والعالم هيولي.  حيث لا حب لا توجد حقيقة.  عدم الكون وعدم الحب شيء واحد. 

ليس في الامر فضيحة كما ليست خطيئة أن يحب الإنسان.  العشق دافع طبيعي احتياج الجسد له كاحتياجه للهواء والماء والطعام.  أن تحب فأنت موجود وحيّ.

كما للإنسان حياة واحدة لا حياتان،  وعليه أن يحياها بكل طاقاته قبل أن تفلت منه إلى الهاوية.

إن العمل الأدبي الناجح هو الذي يترك أثراً واضحاً في نفس القارئ لا تمحوه السنون, وهذا ما أعتقد أنه ينطبق على هذه  الرواية.

رغم كل الهجوم الذي تعرضت له الرواية ورغم صعوبة قراءتها إلا أنها تجربة تستحق أن يقوم القارئ بخوضها بنفسه.



دمتم قارئين

شيرين الخس