من رحم الممكن
يولد المستحيل بقوة الإرادة
قراءة في رواية
(بذلة الغوص والفراشة) للكاتب جان دومينيك بوبي
والذي نفسه بغير
جمال لا يرى في الوجود شيئاً جميلاً
أيهذا الشاكي وما بك
داءٌ كن
جميلاً ترى الوجود جميلاً
رافقني هذين
البيتين طيلة قراءاتي للرواية التي اعتبرها مذكرات أكثر من كونها رواية.
أول ما سمعته عن الرواية
كان عبارة (الرواية التي كتبت برمش العين اليسرى), في البداية ظننته تعبيراً
مجازياً لكنني وأثناء قراءتي للرواية اكتشفت أنها وصفٌ واقعي ودقيق للطريقة
المذهلة التي كُتبت فيها الرواية حيث أن كاتبها جان دومينيك أصيب فجأة ودون سابق
إنذار بمتلازمة المنحبس (حيث لا يستطيع المصاب بهذه المتلازمة تحريك أي عضو من
أعضاء جسده سوى جفنه الأيسر), فاضطر بعدها لاعتزال حياته الحافلة بالانشغالات حيث
كان يعمل في مجلة نسائية اسمها (Elle) وكان مشغولاً أغلب وقته.
لتنقلب حياته
رأساً على عقب, من حياةٍ صاخبةٍ ذات إيقاعٍ سريعٍ إلى حياة فارغة من أي انشغالات
لا شيء فيها سوى الفراغ القاتل والوقت الطويل الذي لا يملؤه شيء سوى الكثير من الأفكار
والذكريات والأمنيات التي لن تتحقق.
حاولت تخيل نفسي للحظةٍ
مكان الكاتب, فأرعبتني الفكرة, حيث أحسست أنني أكاد أفقد عقلي لمجرد التفكير
باحتمالية هذا. وأعتقد أن الكثير من الناس سيقع حتماً فريسة اليأس والإحباط والاكتئاب
لو أنه تعرض لحادثةٍ من هذا النوع أو حتى أبسط منها, إلا أن كاتبنا البطل صاحب
الروح المقاتلة والذي شبّه روحه في صفحات مذكراته بفراشةٍ, أبى أن يستسلم لمشاعر
اليأس والاحباط, بل نراه يلون أفكاره بالكوميديا في أغلب الأوقات وأكثرها حلكةً.
وجعل هذه الفراشة المحبوسة داخل جلده الذي شبهه ببذلة غوص تكاد تخنقه وتثقل على
أنفاسه, تحلق متنقلةً في المكان والزمان فتارةً تحلق نحو الماضي لتستجلب شخوصاً
عزيزةً على الكاتب وتذكره بأحداثٍ مضت لتوقظ داخله الحنين والاشتياق والتحسر
والغضب والفرح, وتارةً تنتقل إلى أماكن تاق لزيارتها لكنه لم يستطع أن يفعل.
هذا الإنسان
العنيد صاحب الروح القوية رغم ضعفها حاول أقصى جهده بالتعاون مع من حوله إلى أن
تمكن من إيجاد طريقة تتيح له التواصل مع حوله. بدأت بدائية فرفة واحدة من عينه
اليسرى كانت تعني (نعم), ورفتان كانت تعني (لا), ثم ساعدته اختصاصية النطق في
المستشفى البحري الذي بات مقر إقامته الدائم (كلود ماندبيل) على التواصل بشكلٍ
أفضل حيث كانت تتلو عليه أحرف الأبجدية مرتبةً حسب الحروف الأكثر استخداماً في اللغة الفرنسية (نظام ESA) وحين يصل
إلى الحرف المطلوب يرف بعينه اليسرى مرةً واحدة فتقوم هي بتدوينه لتنتقل لسرد
الأبجدية مرةً تلو الأخرى إلى أن تتكون كلمة فكلمة, وبهذه الطريقة المضنية قام
كاتبنا بكتابة هذا الكتاب الذي شاركنا فيه تقلبات مشاعره وأفكاره بعد أن أصبح جسده
ثقيلاً غير متحرك كبذلة غوص بينما بقيت روحه مرفرفة كفراشةٍ تتجول به في كل مكانٍ
وزمان.
الجدير بالذكر أن
كتابنا الذي أطلق عليه الكاتب اسم (دفاتر رحلة ثابتة) ,والذي يتجاوز عدد صفحاته المائة صفحة بقليل,
قد تطلّّب من الكاتب 200 ألف رفة جفنٍ حتى رأى النور وقد مات كاتبه بعد 3 أيامٍ من
صدوره, وكأنه استسلم للموت بعد أن أنهى مهمته بإيداع كل مشاعره وأفكاره بين طيات
هذا الكتاب.
توقفت كثيراً
أثناء قراءتي للكتاب عند العديد من المقاطع, مراتٍ لأنني شعرت بحزنٍ عارم لم أتمكن
معه من متابعة القراءة حينها, ومراتٍ بسبب عمق الفكرة التي وردت والتي احتاجت مني
وقتاً لهضمها.
ابتلاءات العالم
قد تكون أقسى مما نتخيل, ومن أصعبها ما يعانيه سجناء متلازمة المنحبس, فهم يشعرون
بكل شيء ولكنهم .
حيث ذكر الكاتب في
أحد المقاطع معاناته مع الأصوات البعيدة التي تبدو لأذنيه مشوهةً ومضخمةً بطريقةٍ
مؤلمة وصبره الإجباري عليها إلى أن يجيء أحدهم فيغلق باب غرفته ليرحمه من أصوات
أحذية المارين في الممر الطويل أمام غرفته.
وفي مقطع آخر,
يتحسر الكاتب على أنه لم يتعلم أسماء الأصناف المختلفة لخمور بوردو من صديقٍ له
كان صحفياً تم احتجازه 3 سنواتٍ في زنزانةٍ ببيروت أثناء تغطيته لأحداث الحرب
الأهلية, حيث قضى هذا الصديق وقته الطويل في الزنزانة وهو يعدد أسماء هذه الخمور
كي لا يصاب بالجنون, وهكذا فكان على
كاتبنا أن يبحث عن تعدادٍ آخر يؤثث ساعاته الأكثر ركوداً, كما ذكر.
وقد أعجبني وصف
الكاتب لبعض الرسائل التي كانت تصله من أشخاصٍ عرفهم في حياته وذلك بعد أن بات
يراسلهم بطريقة رفة العين التي اعتمدها لكتابة هذا الكتاب, حيث قال: (بعضها لا
تخلو من الأهمية. تتحدث عن معنى الحياة, وسيادة الروح وعن السر الكامن في كل وجود.
وفي ظاهرةٍ غريبة لانقلاب الأوضاع, لاح لي أن أولئك الذين أقمت معهم أبسط العلاقات
هم من يضغطون إلى أقصى حد في طرح هذه الأسئلة الجوهرية, وأن خفتهم تحجب عمقهم. هل
كنت أعمى وأصم؟ أم أن نور المأساة ضروري لينير لرجلٍ نهاره الحقيقي؟ هناك رسائل
أخرى تروي في بساطةٍ أحداثاً صغيرةً لتبرز انسياب الزمن, زهورٌ تقطف عند الغسق,
رتابة يوم أحدٍ ممطر, بكاء طفل قبل أن ينام. هذه العينات من الحياة, المأخوذة من
اللب, هذه النفحات من السعادة, أثارت عواطفي أكثر من أي شيءٍ آخر. أحتفظ بها مثلما
يُحتفظ بكنز. ويوماً ما سأسعى لإلصاق بعضها بعض لصنع شريطةٍ من ألف مترٍ ترفرف في
مهب الريح, مثل رايةٍ معلنةً مجد الصداقة)
أما عن أقسى
المقاطع في نظري على الإطلاق فكانت وصف مشاعره وهو يلاعب ابنه (لعبة المشنوق), حيث
قال (اجتاحتني موجة من الحزن. هو ذا تيوفيل, ابني, جالساً أمامي بأدب, وجهه على
بعد 50 سنتمتراً عن وجهي, وأنا أبوه لا أملك حتى حقي البسيط في تمرير يدي على شعره
الكث, والإمساك بقفاه الخفيفة كالريشة, وهصر جسده الصغير الناضح نعومةً ودفئاً.
كيف أقولها له؟ هذا فظيع, هذا جائر, هذا بغيض, هذا شنيع. فجأة انهرت تماماً. جرت
دموعي, وانفلتت من حلقي حشرجةً أفزعت ثيوفيل. لا تخف يا صغيري, أحبك.)
رغم أن هذا الكتاب
لا يتعدى كونه مذكرات وأفكار وتجارب شخصية للكاتب, إلا أنها برأيي تستحق القراءة
فعلى الرغم من
الحزن والألم الذي يعتصر قلبك خلال قراءتها إلا أن هذا الكتاب يعتبر دعوةً إلى
التشبث بالحياة والمحاربة في سبيل العيش بسعادة والاستمتاع بنعم الله سبحانه.
هي باختصار, دعوةٌ
للعاطلين عن الأمل والواقعين في مستنقع اليأس إل الكف عن الاستسلام, وكسر قيود
أرواحهم الوهمية والبدء بالحياة والشعور بالامتنان لما يملكون من نعمٍ لا تعد ولا
تحصى.
تُرجمت الرواية المكتوبة
باللغة الفرنسية إلى العديد من اللغات منها الإنجليزية والعربية.
دمتم قارئين
بقلم شيرين الخس
.

